تواجه شعوب نهر النيل تحديات كبرى. الحضارات العريقة التي قامت على ضفافه تؤكد أهمية هذا النهر العظيم، على رغم أنه في المرتبة 94 بين أغزر أنهار العالم. وهو مع ذلك شريان الحياة لنحو 400 مليون إنسان يزداد عددهم عاماً بعد عام. وفي مصر تزداد الأمور تعقيداً، لأن الحاجة إلى الماء لم تعد ترتبط فقط بالنمو السكاني، بل أخذت تعتمد في شكل كبير على السياسات المائية التي تطبقها دول المنبع. ومع تغير المناخ، يتعرض النيل في مصر لهجوم البحر من جهة الدلتا أيضاً. وبين جبهتي المنبع والمصب، تعاني البلاد من مشكلات جسيمة في إدارة المياه. يميل الساسة إلى التقليل من فكرة أن التدهور البيئي غالباً ما يكون السبب الكامن وراء الأزمات الدولية. فكما أن الجفاف الذي تعرضت له سورية في النصف الثاني من العقد الماضي ساهم في إشعال فتيل الاضطراب في البلاد، يمكن مصر أن تصبح مثالاً جديداً. فسكانها الذين يبلغون 95 مليوناً هم ضحايا محتملون لكارثة تتحرك ببطء. مجلة «البيئة والتنمية» نشرت العديد من المقالات عن أخطار التغير المناخي على مصر، محذرةً من أنها ستكون واحدة من بين أكثر خمس دول تأثراً بارتفاع منسوب البحر نتيجة التغير المناخي. والأمر لا يرتبط فقط بغرق أجزاء من دلتا النيل والمناطق الساحلية، بل سيمتد ليطاول أحد أهم رموز الاقتصاد المصري، قناة السويس. إثيوبيا تنهض على أكتاف النيل تعتبر مرتفعات إثيوبيا مصدراً لمعظم الموارد المائية لنهر النيل. فهي ترفده بنحو 85 في المئة من مياهه في شكل وسطي، علماً أن هذه النسبة ترتفع إلى 95 في المئة خلال موسم الفيضان. أما بقية المياه فتأتي من بحر الجبل المتدفق من بحيرة فكتوريا. وتبرز مساهمة النيل الأزرق الذي يتدفق من بحيرة تانا في إثيوبيا الذي يعد وحده مصدراً لنحو 59 في المئة من مياه النيل. نتيجة الحروب الخارجية والداخلية، كانت المشاريع المائية لإثيوبيا صغيرة وقليلة العدد لا تؤثر في شكل معتبر في تدفق نهر النيل. ثم تغيرت الأحوال خلال السنوات العشر الماضية، فبدأت إثيوبيا بتخطيط برنامج يضم عدداً كبيراً من السدود على نهر أومو الداخلي وتنفيذه بدعم صيني، وكذلك على روافد النيل بتمويل ذاتي. الأفكار الأولى لسدود إثيوبيا وضعت من قبل المكتب الأميركي لاستصلاح الأراضي، الذي اقترح في 1964 إقامة أربعة سدود على نهر النيل الأزرق، بما فيها سد حدودي مع السودان يخزن 11 بليون متر مكعب ويولد 1400 ميغاواط ساعة من الكهرباء. هذا السد وجد طريقه إلى التنفيذ، مستغلاً فقدان الاستقرار في مصر. فقد أُعلن عنه وبوشر بتشييده بعد أسابيع قليلة من ثورة كانون الثاني (يناير) 2011، حيث قامت الحكومة الإثيوبية بالتعاقد مع شركة «ساليني» الإيطالية لدراسة وتنفيذ السد، الذي أصبح اسمه لاحقاً «سد النهضة الإثيوبي الكبير»، وارتفعت سعته التخزينية لتصل إلى نحو 75 بليون متر مكعب. وبذلك يحتل المرتبة السابعة عالمياً، في حين تبقى بحيرة ناصر، التي يحتجزها السد العالي قرب أسوان في المرتبة السادسة بسعة مقدارها 132 بليون متر مكعب. الحكومة الإثيوبية وفّرت نحو 5 بلايين دولار لبناء سد النهضة، مع آمال بتوليد 6000 ميغاواط من الطاقة الكهربائي. ويعد ذلك صفقة كبرى للإثيوبيين، إذ يفتقد ثلاثة أرباعهم الكهرباء حالياً. ويمكن أن يحقق بيع فائض الكهرباء للدول الأخرى في المنطقة، بما فيها السودان ومصر، عائداً لإثيوبيا مقداره بليون دولار في السنة. وفقاً لاتفاقية تقاسم مياه النيل التي وقعت في 1959 بين مصر والسودان، تبلغ حصة مصر 55.5 بليون متر مكعب سنوياً، في حين تبلغ حصة السودان 18.5 بليون متر مكعب. وبالتالي فإن مرحلة ملء البحيرة خلف سد النهضة ستؤثر في شكل كبير في حصة البلدين من ماء النيل. فمن المرجح أن تنخفض كمية المياه التي تصل إلى مصر بحدود 25 في المئة في السنوات بين 2017 و2023. وستضطر مصر إلى تعويض نحو 70 في المئة من النقص الحاصل بالاعتماد على مخزون بحيرة ناصر، وخلال هذه الفترة ستنخفض كمية الكهرباء المتولدة من السد العالي بمقدار الثلث. وعدا عن توليد الكهرباء، ما زالت الخطط الإثيوبية لاستخدام مياه السد للري غامضة. الحكومة الإثيوبية ترى أن سد النهضة سيساعد في خفض التبخر الإجمالي في نهر النيل بنحو 6 بلايين متر مكعب، نتيجة خفض منسوب الماء في بحيرة ناصر وتحسين تدفق المياه في النهر، علماً أن كمية المياه المتبخرة من بحيرة ناصر وحدها تتراوح ما بين 10 إلى 16 بليون متر مكعب سنوياً. ومن الآثار الإيجابية للسد، وفق الحكومة الإثيوبية، التحكم في فيضان النيل الأزرق ضمن الأراضي السودانية وإقلال كميات الطمي، مما سيوفر أراضي بمساحة 500 ألف هكتار تصلح للزراعة في السودان. إشكالية بناء سد النهضة لا تقتصر على هذا المشروع، وإنما في تشريعه الأبواب لدول المنبع في بناء السدود من دون أخذ أي اعتبار لبلدان المصب، بخاصة مصر. فالسد يعتبر خرقاً لاتفاقية اقتسام مياه النيل لعام 1929، التي وقعتها الحكومة البريطانية، بصفتها الاستعمارية نيابة عن عدد من دول الحوض، مع الحكومة المصرية. وهي تتضمن إقراراً بحقوق مصر المكتسبة في مياه النيل، وأن لمصر الحق في الاعتراض في حال إنشاء هذه الدول مشاريع جديدة. تغير المناخ تبدو دراسات السدود الإثيوبية مدفوعة بهمّ الحصول على الطاقة، من دون إقامة وزن لتأثيرها في تغير مناخ دول المصب أو لتأثرها، هي ذاتها، بتغير المناخ العالمي. وقد خلصت دراسة نشرت أخيراً إلى أن حصول تغيرات في تدفق نهر النيل نتيجة لتغير المناخ قد يعزز من وطأة الوضع المائي الحرج بفعل تضاعف عدد سكان الحوض إلى نحو بليون شخص في 2050. وتشير هذه الدراسة إلى أن متوسط التدفق السنوي لنهر النيل سيزداد بمقدار 15 في المئة، من 80 بليون متر مكعب في القرن العشرين إلى 92 بليون متر مكعب في القرن الحالي. ولكن ستكون هناك تباينات كبيرة في الهطول المطري السنوي، حيث سيزداد تكرار سنوات الجفاف وسنوات الفيضان. ولاحظت الدراسة أن التبدلات في تدفق نهر النيل ستكون بين 2010 و2040، ثم سيستقر تدفق النهر حتى نهاية القرن الحادي والعشرين. الفاتح الطاهر، أحد معدي الدراسة، وهو أستاذ الهندسة المدنية والبيئية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، أكّد ضرورة التركيز على التأثيرات المحتملة لتغير المناخ والنمو السكاني السريع لأن «تغير المناخ يشير إلى الحاجة لزيادة السعة التخزينية للسدود في المستقبل. والقضايا الجدية التي تواجه نهر النيل هي أكبر من ذلك الجدل الذي يحيط بناء سد النهضة». سد النهضة، في حال التوافق على ترتيبات ملئه واستثماره، قد يكون خطوة في الاتجاه الصحيح لمواجهة التباينات المتوقعة في هطول الأمطار خلال السنوات القليلة المقبلة. ولكن بناء المزيد من السدود يجب أن يكون مخططاً ودقيقاً، ويراعي حقوق جميع دول حوض النيل. تتفق توقعات النماذج المناخية على أن بلدان حوض المتوسط، بما فيها مصر، تتجه إلى مزيد من الجفاف. ومن اللافت أن الدراسة التي نشرتها وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) في آذار (مارس) 2016 خلصت إلى أن الجفاف الذي بدأ في 1998 في شرق المتوسط كان الأسوأ منذ 900 سنة. غير أن أخطار الاحترار العالمي في مصر لا تتجلى فقط في ازدياد الجفاف، وإنما تشمل أثراً خطيراً يتمثل في ارتفاع منسوب مياه البحر نتيجة ذوبان طبقات الجليد في المناطق القطبية والأنهار المتجمدة، وبسبب زيادة حجم مياه المحيطات نتيجة ارتفاع حرارتها. هذا الأمر يمثل تهديداً لأراضي دلتا النيل التي يعيش فيها نحو 45 إلى 50 مليون شخص، على رغم أنها تغطي 2.5 في المئة فقط من مساحة مصر. وإلى جانب الخسارة شبه الأكيدة لرقعة الأرض في الدلتا، فإن الأثر المشترك لارتفاع منسوب مياه البحر وهبوط الأرض سيؤدي إلى زيادة تسرب المياه المالحة. وأظهر تقرير المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) عام 2009 حول أثر تغير المناخ على البلدان العربية أن تسرب المياه المالحة نتيجة ارتفاع منسوب مياه البحر متراً واحداً يمكن أن يعرض للخطر أكثر من ثلث حجم المياه العذبة في الدلتا المصرية. إن نصيب المواطن المصري من المياه سنوياً لكل الأغراض هو في انخفاض مستمر، حيث كان 2800 متر مكعب في 1959 وتراجع إلى حوالى 660 متراً مكعباً في 2013، علماً أن خطر الفقر المائي هو 1000 متر مكعب سنوياً. ووفق تقديرات «أفد» التي نشرت في 2010، فإن حصة المواطن المصري ستبلغ 552 متراً مكعباً في 2025. وفق معهد سميثسونيان، فإن مصر، في هذه المرحلة، بحاجة للاستثمار في تحلية ماء البحر للحصول على المياه العذبة كما هي الحال في المملكة العربية السعودية، والاستثمار في الري بالتنقيط لتوفير المياه كما تفعل إسرائيل. ويحذّر المعهد أنه مع فقدان حقهم المكتسب في مياه النيل، واختفاء دلتا النيل، فقد يضطر ملايين المصريين للبحث عن مكان آخر صالح للعيش. التناقص السريع في الموارد المائية المتاحة يحتاج إلى مراجعة للسياسات الزراعية والصناعية. هل ستكون مصر قادرة على الموازنة بين حاجتها المتزايدة للقطع الأجنبي وترشيد الاعتماد على الصادرات المستهلكة للمياه كالرز والقطن، والإسمنت والحديد؟ ألا توجد ضرورة لتسعير المياه بقيمتها الحقيقية من أجل دفع القطاع الصناعي والزراعي للتفكير جدياً في حسن إدارتها وترشيد استهلاكها؟ هل حان وقت التفكير في تحلية مياه البحر لتأمين الاحتياجات المائية المتزايدة؟ إنها أسئلة لن ينفع الهروب من الإجابة عنها، وبلا تأخير. * (يُنشر بالاتفاق مع مجلة «البيئة والتنمية»).