وضع قرار إثيوبيا البدء في تحويل مجرى مياه النيل الأزرق (الفرع الأكبر من نهر النيل) تمهيداً لبناء «سد النهضة»، الديبلوماسية المصرية على المحك، وأثار مخاوف شعبية من تناقص حصة القاهرة من مياه النيل. لكن الرئاسة المصرية قللت من المخاوف. وفوجئ المصريون بقرار تحويل مجرى النيل الأزرق الذي يضخ أكثر من نصف مياه النيل، لاسيما وأنه صدر بعد ساعات من زيارة الرئيس محمد مرسي لأديس أبابا والتي التقى خلالها رئيس الوزراء الإثيوبي هايلي ماريام ديسالن على هامش مؤتمر القمة الأفريقية. وفي حين قلل مسؤولون مصريون من أهمية التحرك الإثيوبي، حملت قوى المعارضة الحكم مسؤولية الفشل في إدارة ملف المياه. وأكد الناطق باسم الرئاسة المصرية عمر عامر أن كميات مياه النيل التي تصل إلى مصر «لن تتأثر سلبياً بما أعلنته الحكومة الإثيوبية من بدء إنشاء سد النهضة الإثيوبي وتحويل مجرى النيل الأزرق»، ما يخالف تأكيدات خبراء أبرزهم وزير الري السابق نصر الدين علام الذي طالب ب «تحرك سريع ورؤية موحدة مع السودان تحافظ على الحصص التاريخية من المياه». وأشار الناطق الرئاسي في مؤتمر صحافي أمس إلى أن «هناك لجنة ثلاثية (تضم خبراء من مصر والسودان وإثيوبيا) تدرس حالياً الدراسات الهندسية التي أعدتها الحكومة الإثيوبية، وستصدر قرارها في هذا الشأن وتنتظر مصر صدور هذا القرار لتحديد موقفها من المشروع». وتختم اللجنة اجتماعها السادس والأخير في أديس أبابا اليوم. لكن مصادر وثيقة الصلة بإدارة الملف أكدت ل «الحياة» أن هناك «خلافات وانقسامات داخل الوفد المصري في شأن جدوى الاستمرار في اللجنة الثلاثية التي لا تزال تبحث في الأمر فيما إثيوبيا تقيم وضعاً جديداً على الأرض، ومن ثم فلا جدوى من الدراسات». ولفتت إلى أن «الخلافات ظهرت منذ بداية تشكيل اللجنة الثلاثية، إذ رأى بعض الأطراف ضرورة عدم انضمام مصر إلى هذه اللجنة، أو على الأقل الاشتراط على إثيوبيا وقف أي إجراءات لبناء السد إلى حين الانتهاء من الدراسات». وتعود أزمة بناء السد الإثيوبي إلى منتصف العام 2010 عندما قررت 6 من دول منابع النهر هي إثيوبيا وأوغندا وكينيا وتنزانيا ورواندا وبوروندي التوقيع في أوغندا على معاهدة جديدة لاقتسام موارده، ما رفضته في شدة دولتا المصب (مصر والسودان) لما له من تأثير في الحصص التاريخية لهما والتي تقدر ب 55.5 بليون متر مكعب سنوياً لمصر و18.5 بليوناً للسودان. لكن دول الاتفاق لم تعر احتجاجات دولتي المصب اهتماماً ودشنت إثيوبيا في نيسان (أبريل) 2012 مشروع «سد النهضة» الذي يتوقع أن يحجز نحو 63 بليون متر مكعب من المياه. وبدا أن القاهرة تعتمد خيار التفاوض في الأزمة، إذ أكد مسؤول عسكري ل «الحياة» أن الاستجابة للمطالبات التي ثارت أمس بالتدخل بالقوة لمنع بناء السد الإثيوبي «مستبعدة تماماً». وأوضح أن «الخيار العسكري كان طرح خلال مناقشات جرت مع بداية الأزمة في عهد النظام السابق، لكن المسؤولين رفضوها في شدة، وهو النهج المستمر حتى الآن». وشدد وزير الموارد المائية والري محمد بهاء الدين على أن «البدء في إجراءات تحويل الأنهار التي تجرى منذ فترة لا تعني موافقة مصر على إنشاء سد النهضة». وقال: «ما زلنا في انتظار ما ستسفر عنه أعمال اللجنة الثلاثية». وأضاف في بيان أن «تحويل الأنهار عند مواقع إنشاء السدود إجراء هندسي بحت يهدف إلى إعداد الموقع لبدء عملية الإنشاء». وأكد أن «عملية التحويل لا تعني منع جريان المياه التي تعود من خلال التحويلة إلى المجرى الرئيس مرة أخرى، وموقفنا المبدئي هو عدم قبول مصر بأي مشروع يؤثر بالسلب في التدفقات المائية الحالية». وأشار إلى أن «أزمات توزيع وإدارة المياه التي تواجهها مصر هذه الأيام وشكاوى المزارعين من نقص المياه تؤكد أننا لا نستطيع التفريط بنقطة مياه واحدة من الكمية التي تأتي إلينا من أعالي النيل». لكنه أوضح أن «موقف مصر من عدم معارضة أي مشروع تنموي في أي دولة من دول الحوض ما زال قائماً ومستمراً مع تأكيد عدم الإضرار بدولتي المصب مصر والسودان»، مشيراً إلى أن «هناك سيناريوات جاهزة للتعامل مع النتائج المتوقعة والمبنية على التقرير الفني الذي سيقدم من اللجنة الثلاثية». وكشف محامي الكنيسة القبطية الأرثوذكسية رمسيس النجار أن الرئاسة فوضت بطريرك الأقباط البابا تواضروس الثاني للتوسط في الأزمة مع إثيوبيا. وأوضح أن البابا تلقى اتصالات من مؤسسة الرئاسة من أجل تدخل الكنيسة المصرية لدى الكنيسة الإثيوبية التي كانت تتبعها تاريخياً للتوصل إلى حل توافقي للأزمة، وأن البابا سيجري اتصالاته خلال ساعات. ونقلت وكالة أنباء الشرق الأوسط الرسمية عن سفير مصر في إثيوبيا محمد إدريس أن سد النهضة الإثيوبي «أمر واقع ومشروع جار تنفيذه فعلاً»، مشيراً إلى أن «الحوار الدائر الآن بين مصر وإثيوبيا يسعى إلى أن يكون المشروع مفيداً للبلدين، وليس حواراً بهدف وقف مشروع بناء السد». وأضاف أن اللجنة الفنية الثلاثية التي شكلت لوضع تقرير عن آثار بناء السد «زارت موقع السد (أول من) أمس ولا يمكن الحكم على السد من دون صدور تقرير اللجنة». وأوضح أن «قرارات اللجنة ليست ملزمة، بل هي لجنة من خبراء لها وزن سياسي، ولا يمكن أن يضرب بتقريرها عرض الحائط، فهو تقرير له قيمة علمية وفنية وسيؤخذ في الاعتبار». وأشار إلى أنه «بعد انتهاء اللجنة من تقريرها سيعرض على المستوى السياسي لاتخاذ قرار في شأنه، والتحدي هو كيفية التعامل السياسي مع تقرير اللجنة الثلاثية، ومصر حريصة على التنمية في إثيوبيا طالما لن تضرها، ومستعدة لأن تكون شريكة لها في مشاريع التنمية». ولفت إلى أن رئيس الوزراء الإثيوبي أكد خلال لقائه الرئيس مرسي على هامش قمة الاتحاد الأفريقي قبل ثلاثة أيام أن «إثيوبيا لا تسعى إلى أن تلحق الضرر بمصر، وأعرب عن تطلعه لأن يكون مشروع السد مشروعاً إقليمياً يحقق المنفعة لمصر والسودان، وتم الاتفاق خلال اللقاء على عقد لقاءات على المستوى الرئاسي وعلى مستوى اللجان الفنية لمناقشة الموضوع بالتفصيل». وأكد أن «أجواء التعامل مع ملف السد تغيرت، إذ كان يتم في السابق التعامل مع هذا الملف على خلفية علاقات سياسية متوترة وتفاعل سلبي بين الجانبين في ظل وجود قطيعة على مستوى رأس الدولة منذ محاولة اغتيال (الرئيس السابق حسني) مبارك في العام 1995، لكن الأجواء تغيرت بعد ثورة يناير وأصبح هناك تفاعل على المستويين الرسمي والشعبي وزيارات متبادلة بين الجانبين، والعلاقات الآن إيجابية مبشرة وليست سلبية متوترة، لكن ينقصنا التنسيق ووضع خطة حتى تكون هذه المبادرات متواصلة وليست عابرة». في المقابل، اعتبر رئيس وحدة السودان وحوض النيل في «مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية» هاني رسلان أن إعلان إثيوبيا تحويل مجرى نهر النيل الأزرق بعد زيارة الرئيس مرسي «يدل على إتباعها سياسة الخداع الاستراتيجي ضد الرأي العام والحكومة في مصر»، محملاً المسؤولين المصريين مسؤولية «إلحاق الضرر بمصالح البلاد». وطالب رسلان بإقالة وزير الري، معتبراً أن «تصريحاته بأن مصر لا تمانع في إقامة سد النهضة الإثيوبي تعد نوعاً من الرضوخ والتفريط والإهمال لكل التداعيات الاستراتيجية». ودعا إلى «اتخاذ موقف حازم والتحرك فوراً ضد هذا الخطر». ورأى أن «تأخر الرئيس وحكومته في معالجة هذه الأزمة التي تمس الأمن القومي يستوجب محاكمة شعبية». واعتبر الأمين العام السابق للجامعة العربية القيادي في «جبهة الإنقاذ الوطني» المعارضة عمرو موسى المشروع الإثيوبي «تحولاً تاريخياً في مسار مياه نهر النيل». وشدد على «ضرورة ألا تتأثر مصالح دول المصب، خصوصاً مصر، وتجنب كل ما يؤدي إلى توتر العلاقات في منطقة القرن الأفريقي، وهذا يتطلب أن تأخذ إثيوبيا مصالح مصر في الاعتبار في الوقت نفسه الذي تأخذ فيه مصر مصالح إثيوبيا باهتمام». وطالب الحكومة ب «الدخول فوراً في مفاوضات ثنائية مع إثيوبيا لبلورة وتحديد وضمان المصالح المشتركة، ويجب أن تشمل المفاوضات مختلف العناصر السياسية والقانونية والاقتصادية وموضوع المياه، وأن تعود مصر بنشاط إلى المشاركة الفاعلة في تجمع الدول النيلية، لكن بخطة واضحة المعالم تأخذ وتعطي». وحمّل حزب «الإصلاح والتنمية» الرئيس مرسي المسؤولية الكاملة عن «العجز المائي المنتظر حدوثه في مصر». وقال في بيان أمس إن «بناء سد النهضة الإثيوبي سيكون له تأثير سلبي في حصة مصر المائية من فيضان النيل ومواعيد وصولها إلى بحيرة ناصر (بحيرة السد العالي) بما سيؤدي إلى تبوير نحو 2 مليون فدان من الأراضي الزراعية فضلاً عن حدوث مشاكل في مياه الشرب والصناعة نتيجة لانخفاض منسوب المياه في النيل... نحن مقبلون على كارثة بكل المقاييس إذا لم يكن هناك تحرك مصري عاجل ومباشر». ورأى أن «اتخاذ إثيوبيا هذا القرار الخطير بعد يوم واحد على مغادرة الرئيس مرسي يعني أن شؤون مصر في أيدي مجموعة من الهواة لا يستطيعون إدارة ملفاتها خارجياً وداخلياً».