جاءت الخطوة الأثيوبية بتحويل مجرى النيل الأزرق لاستكمال إنشاء «سد النهضة»، لتُرسخ حقيقة جلية، مفادها أن أديس أبابا لا تعبأ بشواغل دولتي المصب (مصر والسودان)، وأنها ماضية وبإصرار في تنفيذ ذلك السد، حيث يمثل تحويل مجرى النهر نقطة اللاعودة على طريق إنشائه. واللافت هنا أن إعلان أثيوبيا عن تحويل مجرى النهر، جاء بعد زيارة الرئيس المصري محمد مرسى لأديس أبابا مباشرة، والتي أعلنت أثيوبيا خلالها نيتها عدم الإقدام على الإضرار بالمصالح المصرية في مياه النيل، وكأن الأقوال الأثيوبية شيء والأفعال شيء آخر. واللافت كذلك أن يعتبر مسؤولو مصر أن تحويل مجرى النهر إجراء طبيعي لأي مشروع هندسي يُنفذ على مجرى مائي، وكأنما استقر في وجدان الحكم في مصر أن «سد النهضة» قائم لا محالة. والسؤال الملح هو: هل المسؤولون المصريون مطمئنون فعلاً لعدم تأثر مصر سلباً جراء إنشاء السد؟ وهل هم يثقون في الوعود الأثيوبية بعدم الإقدام على الإضرار بمصالح مصر في مياه النيل؟ الناظر لسياسة أثيوبيا تجاه «سد النهضة» يجد إعلاءً للمصالح الأثيوبية من دون أي اعتبار للمصالح المصرية في مياه النيل، إذ أعلنت عن إنشاء السد خلال شهر نيسان (أبريل) من العام 2011 بقرار منفرد وبالمخالفة للقوانين التي تحكم الأنهار الدولية، ومن دون إخطار مسبق لباقي دول الحوض، كما أخفت البيانات والمعلومات الخاصة بالسد عن مصر، حتى اللجنة الثلاثية لدراسة آثار «سد النهضة» على دولتي المصب، والتي دعا لتشكيلها رئيس الوزراء الأثيوبي الراحل ميلس زيناوي خلال زيارته القاهرة في أيلول (سبتمبر) العام 2011، قراراتها غير ملزمة للدول، كما أن عملها لا يوقف الأعمال الأثيوبية على صعيد تنفيذ السد، بما يوحي بأنها خدعة أثيوبية للمماطلة والتسويف وكسب الوقت وفرض موقف على الأرض يتجاوز المطلوب تحقيقه من نتائج تلك اللجنة. فضلاً عن استثمار أثيوبيا أعمال اللجنة في السعي للحصول على التمويل اللازم لإنشاء السد من خلال إظهار حالة من التوافق مع دولتي المصب والتي تشترط الجهات المانحة توافقها حول مشروعات التنمية في دول المنابع. ويأتى المسلك الأثيوبي تجاه اللجنة الثلاثية متسقاً مع مساعيها لتوظيف التوجهات المصرية -بعد ثورة 25 يناير العام 2011- الرامية للتقارب مع الدول الأفريقية في إظهار الخلافات بين البلدين على أنها إرث من النظام السابق، وكذا إظهار عدم وجود خلافات حول المصالح المائية لكلا البلدين وموافقة مصر على المشروعات الأثيوبية سعياً لاستقطاب الدعم والتمويل الخارجي لمشروعاتها التنموية، بخاصة «سد النهضة». يظهر ذلك من خلال متابعة أعمال اللجنة، إذ كان من المقرر أن تنتهي من أعمالها خلال عام يبدأ منذ مصادقة الدول الثلاث (مصر والسودان وأثيوبيا) على تشكيلها يوم 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011، مقسمة إلى ثلاثة أشهر لاختيار أعضاء اللجنة وعددهم عشرة أعضاء، بواقع اثنين من كل دولة من الدول الثلاث، إلى جانب أربعة خبراء دوليين في مجالات هندسة السدود، وتخطيط الموارد المائية، والأعمال الهيدرولوجية والبيئية، والتأثيرات الاجتماعية والاقتصادية للسدود، وتسعة أشهر لممارسة اللجنة أعمالها بعد اكتمال تشكيلها. أي كان من المفترض أن تنتهي من أعمالها قبل نهاية العام 2012، إلا أن التسويف الأثيوبي في إمداد اللجنة بالدراسات الخاصة بالسد، أدى لاستمرار عملها لسبعة أشهر إضافية. وبملاحظة سياسة أثيوبيا تجاه المياه الواردة للنيل من الهضبة الأثيوبية، نجد أنها نفذت سد «تكيزي» على نهر عطبرة بسعة تخزينية حوالى 9 بلايين متر مكعب من المياه لتوليد حوالى 300 ميغاوات من الطاقة الكهربية، وسد «تانا بلس» لتوليد حوالى 460 ميغاوات من الكهرباء، واكتمل إنشاء السدين في 2010. كما أن سد «النهضة» نفسه هو واحد من أربعة سدود أثيوبية هى كارادوبي، وبيكو أبو، مندايا، النهضة (بوردر سابقاً) ، تعتزم أثيوبيا الانتهاء من تنفيذها بحلول العام 2025 وتبلغ الطاقة التخزينية المتوقعة للمياه أمام تلك السدود حوالى 141 بليون متر مكعب. وبالنظر إلى ما يتوافر من معلومات عن «سد النهضة»، فإن له أضراراً بالغة على مصر خصوصاً، إذ يقع على النيل الأزرق غرب أثيوبيا في إقليم بني شنقول، على مسافة 40 كم من الحدود السودانية وحوالى 740 كم من العاصمة الأثيوبية، ويساهم في توليد طاقة كهربية تقدر بحوالى 6000 ميغاوات، وتبلغ كلفته الإجمالية حوالى 5 بلايين دولار، ومن المقرر أن تستغرق عملية الإنشاء -التي تنفيذها شركة ساليني الإيطالية- من 4 إلى 5 سنوات. ويبلغ ارتفاع السد حوالى 145 متراً بعرض 1.78 متر، مع إنشاء سد فرعي بارتفاع 60 متراً وعرض 4.8 متر لزيادة السعة التخزينية له لتصل إلى حوالى 74 بليون متر مكعب. وطبقاً لآراء الخبراء، تظهر كارثية الآثار السلبية لهذا السد على مصر في عجز هائل بحصتها يُقدر ب 10 إلى 20 بليون متر مكعب خلال فترة امتلاء خزان السد –أي في غضون 6 سنوات- ما يؤدي إلى توقف التوسع الزراعي، فضلاً عن إمكان تقلص المساحة المزروعة حالياً (كل 4 بلايين متر مكعب عجز من مياه النيل يعادل بوار مليون فدان زراعي، وتشريد مليوني أسرة، وفقد 12 في المئة من الإنتاج الزراعي وزيادة الفجوة الغذائية بمقدار 5 بلايين جنيه)، وزيادة نسبة الملوحة في الجزء الشمالي من الدلتا بالدرجة التي لا تسمح بزراعة تلك الأراضى وبوارها، وتلف محطات مياه الشرب، وانهيار أجناب الترع والمصارف، وعدم الاتزان البيئي في الجزء الشمالي من مصر (الإسكندرية والساحل الشمالي) في ضوء احتمال عدم وصول المياه العذبة لخط الشاطئ ودخول مياه البحر عليها، وتأثر حركة الملاحة في النهر، إلى جانب انخفاض إنتاج الكهرباء المتولدة من السد العالي (جنوب مصر) بنسبة 20 في المئة. ويمكن القول إن السدود الأربعة التي تعتزم أثيوبيا الانتهاء من تنفيذها بحلول العام 2025، ستحيل النيل الأزرق إلى ترعة صغيرة، وبحيرة السد العالي إلى بركة خلال سنوات عدة من بدء تشغيل تلك السدود، وهكذا فإنها تنذر بعواقب وخيمة لا تقوى مصر على تحملها. في ضوء ما سبق، نجد أن الهدف الأثيوبي من إنشاء سد «النهضة»، يتخطى عملية إنتاج الكهرباء إلى ما هو أبعد من ذلك، مثل تحقيق منافع اقتصادية ناتجة عن بيع المياه، علماً بأن مسؤولاً أثيوبياً رد على سؤال حول أهم موارد بلاده بالقول: «الماء ثم الماء ثم الماء»، ما يكشف طريقة تفكير لدى صناع القرار في أديس أبابا لا يفصحون عنها الآن، بل ويتخطى ذلك أيضاً إلى التحكم في مياه النيل، وبالتالي التحكم في مصر. في المقابل، نجد أن التعامل المصري مع الأزمة لا يرقى إلى حجمها، فلم تبد مصر قبل ثورة 25 يناير العام 2011 أي اعتراض على إقامة سدي «تكيزي» و «تانا بلس»، رغم أنهما يؤثران سلباً على حجم المياه الواردة لمصر من الهضبة الأثيوبية، مع الاعتراف بمحدودية تأثيرهما في ضوء احتجازهما كميات غير كبيرة من المياه. كما لم تسلك مصر مسلك أثيوبيا التي سبق أن تقدمت بشكوى للأمم المتحدة ضد اتفاقية العام 1959 بين مصر والسودان وتم فصل الكنيسة الأثيوبية عن الكنيسة المصرية بعد ارتباط تاريخي لأكثر من 1600 عام، اعتراضاً على هذه الاتقاقية. على العكس من ذلك، نجد أن سياسة مصر تجاه أثيوبيا تميل إلى التهدئة التي يمكن أن تضيع معها الحقوق المصرية في مياه النيل، بل وأكثر من ذلك نجد سعياً مصرياً دائماً لاسترضاء الجانب الأثيوبي الذي يتخذ خطاً ثابتاً للإضرار بالمصالح المصرية. وكان جديراً بالمسؤولين المصريين أن يُغلبوا النظرية التي تقول إن إقدام أي من دول الحوض على أي عمل من شأنه التأثير على حصة مصر من مياه النيل والبالغة 55.5 بليون متر مكعب يعد مساساً مباشراً بالأمن القومي المصري. هي حقيقة أدركها المصريون على مر العصور، إذ بدأت الحضارة المصرية بنزوح المصري القديم من الصحراء إلى الوادي والتجمع حول مياه النيل، أي أن مصر هي هبة النيل فعلاً. ورغم أن مصر القديمة لم تتعرض لغزو من الجنوب، إلا أن حكامها أصروا على تأمين منابع النيل عبر مد السيادة المصرية إلى جبال النوبة. واهتم محمد علي عقب توليه حكم مصر في 1805 بتأمين البوابة الجنوبية لمصر حرصاً على تأمين تدفق مياه النيل إليها. ثم جاء خلفه الخديوي إسماعيل ليطلق القوات المسلحة المصرية في غابات أفريقيا سعياً لتأمين منابع النيل، بخاصة مع أثيوبيا التي خاض حرباً معها بين عامي 1875 و1876. * كاتب مصري