بات خبر إقدام المتظاهرين المحتجين على البطالة والفقر في المغرب على إضرام النار في أجسادهم أمام البنايات الحكومية والتشريعية خبراً «متقادماً» و «ممجوجاً» وغير مثير إعلامياً، وبالكاد يفعل فعل الصدمة التي تحدث في بلدان مجاورة وقلبت الأنظمة السياسية في أحدها. ويتابع المغاربة سير الأحداث في الجوار مغلّبين رأي عدم إمكان انتقال العدوى إلى بلدهم، على رغم أن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للعاطلين متشابهة تقريباً. ودعامة هذا الرأي أن المطالب عموماً غير مسيّسة، وهامش الحريات العامة متسع، وأبواب الحوار غير مغلقة تماماً، والاستجابة ممكنة، وآفاق التنمية واعدة بورش اقتصادية واجتماعية كبرى قابلة لامتصاص الباحثين عن العمل في ظل الوضع المتقدم للمغرب مع الاتحاد الأوروبي واستقطابه استثمارات أجنبية ضخمة في قطاعات هيكلية أساسية. وكان المتظاهرون المغاربة لجأوا إلى محاولات وعمليات إحراق النفس في الشارع العام قبل سنوات خلت، وما زالوا يواصلون هذا النوع النضالي في شكل يصل إلى تنظيم عمليات انتحار جماعي. لكن، لم تؤد هذه المحاولات في أي حال إلى الموت، وإن وصل البعض إلى المستشفيات في حال خطيرة جداً. وبالتأكيد لم تسقط العمليات أي حكومة، ولم تدفع أي وزير إلى الاستقالة، ولكنها أدت إلى إحراج المسؤولين والضغط عليهم للدخول في حوار ومفاوضات مع المتظاهرين وحصول المئات منهم على وظائف، وتنفيذ العديد من وعود التشغيل التي يُواصَل على أساسها نضال البقية والمتخرجين الجدد الباحثين عن عمل في القطاع الحكومي، فضلاً عن إحداث برامج تأهيلية لولوج سوق الشغل تمتص عدداً منهم. وسجلت آخر محاولة لإحراق النفس بداية صيف العام الماضي أمام مبنى البرلمان المغربي، ونجا المتظاهر من الموت كما العادة بالتدخل السريع لقوات الأمن والوقاية المدنية، وحصل على وظيفة مع أكثر من ألف ومئة عاطل. وفي السنوات التي سبقت، حصل الأمر نفسه، بينما تواصلت الاحتجاجات للتعجيل بالوفاء بالوعود، وعلى رأسها تخصيص 10 في المئة من موازنة مناصب الشغل سنوياً للعاطلين من حملة الشهادات، والاستمرار في إيجاد فرص للعمل. هكذا يعيش المغرب على إيقاع تظاهرات شبه يومية في العاصمة ومختلف مدن المملكة المطالبة بالتشغيل وتحسين ظروف العيش، مُنفّسة الاحتقان الاجتماعي الشديد، بينما تجري الاستجابة من حين لآخر. ومنذ تأكد أن الجامعة المغربية تجاوزتها تطورات السوق ومتطلبات التنمية في الثمانينات، أضحى الطالب المغربي قبل التخرج مقتنعاً تماماً بأن الحقوق تنتزع ولا تعطى، ولذلك، بات يترك مباشرة مدرجاتها رأساً إلى الشارع العام في التسعينات ليطالب بحقه المكفول دستورياً في الشغل والعيش الكريم. ولا يعتزل النضال إلا موظفاً في القطاع العام، حتى لو استغرقه سنوات، وكلفه محاولات انتحارية خطرة وكسوراً جسدية ونفسية. وطور العاطلون الجامعيون ويفضلون وصفهم بالمعطلين لتحميل الدولة مسؤولية بطالتهم، أشكال نضالهم بدءاً من المسيرات السلمية بالمئات والاعتصام في الأماكن والمؤسسات العامة بالعشرات إلى اقتحامها واحتلال فضاءاتها الداخلية وسطوحها، والتهديد من هناك بالاعتصام المطول وإشعال قوارير الغاز والانتحار، ومن تكبيل أنفسهم بالسلاسل الحديدية في واجهاتها، إلى تجرع سم الفئران والمبيدات الزراعية وارتداء أكياس بلاستيكية ولف الأعناق بالحبال استعداداً لشنق أنفسهم، والتلويح بالغاز والبنزين والولاعات، إلى صب الوقود على الأجساد ومن ثمة إضرام النار فيها، ما حدا بالسلطات إلى منع محطات الوقود من بيع البنزين في قنان، لكن المتظاهرين ظلوا يحصلون على سلاحهم على رغم المنع. وعلى رغم أن الكثير من هذه التظاهرات يتم تفريقها بالتدخل الأمني العنيف، وفي جل الحالات، يراقب الأمن عن كثب المتظاهرين، طالما لم يصعدوا نضالهم نحو الأشكال التي تعتبر تهديداً للنظام العام، كاقتحام المؤسسات الحكومية والعامة والتهديد بإحراق النفس والانتحار تسمماً وخنقاً، فإن الأمور اختلفت تماماً في آخر احتجاجات اجتماعية عرفتها منطقة الصحراء جنوب المملكة في 8 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، إذ استغلت عناصر انفصالية الحدث لتسييسه، وزعزعة وحدة أراضي المملكة. وشهدت الأحداث غير المسبوقة في تاريخ الاحتجاجات الاجتماعية بالمغرب ذبح متظاهرين انفصاليين بالسيف أفراداً من رجال الأمن والوقاية المدنية والتنكيل بجثتهم، وكانت المحصلة سقوط 11 قتيلاً من عناصر الأمن واثنين من الوقاية المدنية ومواطن، في وقت لم يقع ضحايا في صفوف المحتجين عدا حالة واحدة توفيت بأزمة صحية.