تشكل قضية تحقيق التنمية المستدامة في أفريقيا معضلة يتطلب التغلب عليها تكاتف جهود دول القارة، وتجاوز الخلافات السياسية، ووقف الحروب والصراعات الحدودية والأهلية. ويأتي في مقدم أسباب انتشار هذه الحروب، ضعف الاندماج الوطني نتيجة للتخطيط العشوائي للحدود، ما أدى إلى عدم تطابق الحدود السياسية مع الحدود السكانية وفشل الأنظمة الحاكمة في التعامل مع هذا الأمر بحكمة، ما فاقَمَ المشكلة، ودفع جماعات مهمشة نحو العنف المسلح، إما لتحسين وضعها في عمليتي التوزيع للثروة والمشاركة السياسية أو للانفصال عن الدولة. ويتطلب تحقيق التنمية المستدامة التركيز على تعزيز معدلات النمو الاقتصادي، والحفاظ على الموارد الطبيعية والبيئية، والتنمية الاجتماعية، والتغلب على الصعاب التي تعيق التنمية وأبرزها النزاعات الداخلية والمشكلات البيئية وفي مقدمها التغيرات المناخية المترتبة على ظاهرة الاحتباس الحراري، فضلاً عن الصراع المحلي والإقليمي والدولي على الموارد الطبيعية والثروات، ما دفع أطرافاً دولية إلى التدخل، تحت دعاوى حماية حقوق الإنسان وتعزيز الديموقراطية ظاهرياً، في حين أنها تسعى لحماية مصالحها ومناطق نفوذها. وهناك أيضاً الكوارث الطبيعية. وتبقى الحروب الأهلية العائق الرئيس أمام التنمية في أفريقيا، وهي تعد من أشكال الصراع الداخلي في المجتمع، تقوم به جماعة أو جماعات على أسس إثنية أو أيديولوجية بهدف تغيير بعض السياسات الحكومية أو إطاحة نظام الحكم أو الحصول على الحكم الذاتي لمنطقة معينة أو الانفصال عن الدولة. ويشتمل هذا الصراع على أعمال عنف مسلح منظم واسع النطاق من جانب الأطراف المشاركة، ويتم تنفيذ عمليات العنف انطلاقاً من مناطق معينة تمثل قاعدة عسكرية محددة لها. وقد حظيت القارة الأفريقية بالنصيب الأكبر من الحروب الأهلية على مستوى العالم، فتجاوزت خلال عقد التسعينات من القرن الماضي 25 صراعاً من مجموع الصراعات في العالم والتي بلغت نحو 35، وأسفرت عن مقتل حوالى 4 ملايين فرد، ونزوح ولجوء أكثر من 5 ملايين فرد أغلبهم من الأطفال، ما يمثل تهديداً مستمراً لاستقرار الدول الأفريقية، نتيجة انتقال الصراع عبر الحدود وتدخل دول الجوار المباشر والإقليمي في النزاعات بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وشهدت دول أفريقية خلال العقود الماضية كثيراً من الحروب الأهلية، أبرزها في السودان وأسفرت عن انفصال جنوب السودان عام 2011، وكذلك جمهورية الكونغو الديموقراطية التي لا تزال تعاني ويلات الحرب الأهلية والتي تورطت في الصراع الداخلي فيها عشر دول أفريقية، حتى وصف البعض النزاع بأنه الحرب العالمية الأفريقية الأولى، وأيضاً السنغال، وليبيريا، ورواندا، وبوروندي، وأوغندا، وتشاد، وأنغولا، والصومال، وأخيراً ليبيا. وتتمثل أبرز الأسباب الداخلية المؤدية إلى اندلاع الحروب الأهلية، في العوامل الإثنية واللغوية والدينية مع وجود أكثر من ألفي لغة ولهجة في أفريقيا، فضلاً عن تعدد الأديان بين السماوية والتقليدية التي هي بدورها متعددة ومتنوعة بمقدار تنوع الجماعات الإثنية في القارة، ومعظمها محلية الطابع لا تملك أي فاعلية خارج نطاق الجماعة الدينية المؤمنة بها. أما الظاهرة الإثنية فتعتبر ركيزة للحرب الأهلية عندما يتم تنفيذ السياسات العامة للدولة على أساس الاعتبارات الإثنية المنحازة، وتعتبر رواندا أبرز الحالات في هذا المجال. ومن مسببات الحروب الأهلية أيضاً العوامل الاقتصادية ومحدودية القدرات الاقتصادية وعدم العدالة في توزيع الموارد الاقتصادية، وهذه كلها سبب رئيسي لنشوب الصراعات الأهلية. أما العوامل الخارجية المساهمة في اندلاع الحروب الأهلية فيتمثل أبرزها في الاستعمار الأوروبي الذي زرع بذور الحرب الأهلية في أفريقيا سواء من خلال النشأة المصطنعة للدول الأفريقية (الحدود السياسية التي تتنافى مع الواقع الاجتماعي والإثني للمجتمعات)، أو من خلال السياسات الاستعمارية المتبعة في المستعمرات الأفريقية السابقة والتي أدت إلى تعميق التناقضات الإثنية بين المجتمعات من خلال تفضيل جماعات معينة على غيرها، وإعطائها نصيباً أكبر في الحكم والسلطة. ويعد السودان مثالاً بارزاً حيث قسم الاستعمار السودان إلى قسمين، واتبع في كل جزء منهما سياسة استعمارية مختلفة. ففي الشمال كانت السياسة البريطانية تسمح بتطوير هوية قومية تتركز على الأنصار والختمية، وفي الجنوب قامت السلطات البريطانية بحظر اللغة العربية، وحالت دون نفاذ التأثيرات العربية الإسلامية، بل سمحت للبعثات التبشيرية التي تُطرد من الشمال بالعمل في الجنوب. ومع حصول الدول الأفريقية على استقلالها أخذ التدخل الخارجي صوراً وأشكالاً مختلفة، فقد تحولت القارة الأفريقية لساحة للمواجهة وتصفية الحسابات بين القوى الكبرى والعظمى، ولاستغلال الثروات والموارد الطبيعية في الدول الأفريقية. أفرزت الحروب الأهلية المتعددة في القارة العديد من المشاكل والصعاب أبرزها مشكلة اللاجئين، إذ تعد أفريقيا أكثر قارات العالم من حيث عدد اللاجئين (أكثر من عشرة ملايين لاجئ ونازح ومشرد). وتسبب ظاهرة اللاجئين مشكلات سواء لدولة المنشأ أو دولة اللجوء، فالأولى تفقد مواردها البشرية بسبب نزف العقول الذي تتعرض له، وهروب المتعلمين والمثقفين إلى الخارج للنجاة بأنفسهم والبحث عن مصادر جديدة للرزق بعيدة عن أوطانهم التي دمرتها الحروب الأهلية، أما دولة اللجوء فتواجه هي الأخرى سلسلة من المشكلات تتمثل في ما يحدثه اللاجئون من تغيرات في الخريطة البشرية وتحديداً الإثنية، فضلاً عما يمثله هؤلاء من أعباء اقتصادية واجتماعية. ومن نتائج الحروب الأهلية أيضاً ظاهرة تجنيد الأطفال في الصراعات المسلحة، ومشكلة انهيار الدولة سواء كلياً أو جزئياً والتي تفرز العديد من الآثار والنتائج الفادحة، إذ إن هذا الانهيار يؤدي إلى تدمير الركائز الاقتصادية والاجتماعية للدولة، وإلى الفصل العملي والواقعي للدولة نظراً إلى غياب سلطة مركزية تفرض سلطتها على أرض الواقع وهو ما يؤدي غالباً إلى إطالة أمد الحرب الأهلية، وصعوبة حسمها لمصلحة أي من الأطراف المتصارعة. وتعد الصومال النموذج الأبرز للانهيار الكامل للدولة. الخلاصة أن الحروب والصراعات الأهلية تتداخل وتؤثر فيها العديد من العوامل والأسباب الداخلية والخارجية، وتتداخل فيها الأسباب والنتائج، الأمر الذي يتطلب رؤية شاملة وتخطيطاً واضحاً متكاملاً للتعامل مع هذه المشكلة، للتوصل إلى تسوية سلمية للأزمة التي تعد العائق الرئيسي أمام تحقيق التنمية المستدامة والشاملة في القارة الأفريقية. * كاتب مصري.