على رغم تمهيد اتفاق السلام الشامل العام 2005 الطريق لوقف أطول حرب أهلية في قارة أفريقيا، شهد السودان تقلبات عميقة أدت إلى إعلان استقلال جنوب السودان وتزايد عدم الاستقرار السياسي، كما شهدت تلك الفترة الكثير من الانتكاسات والخلافات بين الجانبين، تطورت الى حرب شاملة، بعد إعلان برلمان دولة السودان الحرب على حكومة الجنوب حتى استعادة المناطق الحدودية أو حتى الجنوب ذاته. ونشبت الأزمة السياسية الحالية بعد إغلاق حكومة جنوب السودان في كانون الثاني (يناير) الماضي أنابيب النفط التي تنقل الخام إلى الشمال بعد تصاعد الخلافات بشأن رسوم العبور والتي تطورت بدخول «الجيش الشعبي» إلى منطقة «هجليج» واستمرار التوتر في ولاية «جنوب النيل الأزرق»، ومن ثم، فإن حرب استعادة تلك المنطقة تثير التساؤل حول مستقبل استقرار العلاقة بين البلدين. فالصراع المسلح على مناطق التخوم الحدودية بين البلدين، وبخاصة في منطقة «هجليج» القريبة من منطقة «أبيي»، سببه الخلاف على ترسيم الحدود واقتسام الثروة النفطية وسياسة تصديرها عبر ميناء «بورتسودان»، وترتب على المعارك، التي نشبت نهاية آذار (مارس) الماضي، وفي 10 نيسان (أبريل) الجاري سيطرة قوات جنوب السودان (الجيش الشعبي) على المنطقة، وهو ما يشكل عمق 40 ميلاً داخل الأراضي الشمالية وذلك للسيطرة على حقل «هجليج» النفطي، كما هددت حكومة الجنوب بالسيطرة على «ابيي»، فأعلنت دولة السودان التعبئة العامة وعلقت زيارة الرئيس عمر البشير إلى جوبا، واستعادت منطقة هجليج أو الجزء الأكبر منها. وعموماً، لا يخرج الصراع على هجليج عن السياق العام للصراع بين الطرفين، حيث يشكل الخلاف حول تبعية المناطق الحدودية محور المشكلات السياسية المتعلقة باستغلال الأراضي، فبينما تستند حكومة السودان إلى الحدود الإدارية في كانون الثاني (يناير) 1956، فإن حكومة جنوب السودان تستند الى خرائط بريطانية تعود الى العام 1905 وتاريخ تنقل السكان وتحركاتهم ورفض ضم المنطقة للشمال في العام 1979. وفي الوقت الحالي، يسود دولتي السودان وجنوب السودان حال من القلق والتوتر السياسي، بسبب تنامي الأزمات السياسية خلال الشهور الماضية تكشف في مجملها عن ضعف نضج المسار السياسي، وذلك على رغم المرور بفترة انتقالية منذ مطلع 2005 والمضي في تطبيق اتفاقية السلام الشامل، إذ كان من المتوقع هدوء الصراع السياسي الذي شمل كل أنحاء السودان منذ الاستقلال في مطلع 1956، وربما ترجع الأزمة الحالية إلى عدم حسم الكثير من الخلافات في مفاوضات نيفاشا، وترك تسويتها للجنة مشتركة يتم تشكيلها وفقاً لبروتوكول «أبيي»، ما يفتح المجال أمام إعادة تفسير الاتفاقيات وفقاً للأوضاع السياسية القائمة. الحرب الأهلية ويمكن مناقشة احتمالات الحرب الأهلية في إطار مدى ما يعرف بفشل الدولة أو استمرار التخلف السياسي المزمن في البلدين، خصوصاً ما يتعلق بتطور الصراع السياسي منذ استقلال جنوب السودان وهشاشة المؤسسات السياسية، ما يعد أمراً كاشفاً عن سيولة شروط الاستقلال وترسخ الصعوبات التي تواجه التسويات السلمية والتكامل السياسي والاقتصادي. وترجع هذه الصعوبات عموماً إلى هشاشة البنية التحتية في البلدين وعدم حدوث الانتقال السياسي في السودان منذ الاستقلال، وهو ما يعرف بأزمة بناء الدولة، ولازمت هذه التشوهات نشأة دولة الجنوب، حيث لم تستطع الحركة الشعبية تطوير الاندماج الوطني والتعبير عن مصالح الجماعات الإثنية، كما أن انقسام السودان إلى دولتين ترتبت عليه أزمة الشرعية السياسية لدى حكومة الشمال (ثورة الإنقاذ)، فعلى رغم إعلان استقلال الجنوب، ركنت حكومة السودان للخطاب الثوري، فاعتبر «البشير» أن الثورة مستمرة وقادرة على حلِّ مشكلات السودان، وذلك على رغم تواضع الأداء على مدى عشرين عاماً، وبهذا المعنى لم تطرح أفكار جديدة، لتظل الأوضاع السياسية على جمودها، سواء ما يتعلق بمسار مفاوضات الدوحة (دارفور) أو في ما يتعلق بضيق مسارات الحوار بين الحكومة والمعارضة. وفي ما يتعلق بدولة الجنوب، تدفع المشكلات الداخلية لإثارة المشكلات مع دولة السودان، خصوصاً أن حكومة الجنوب ظلت عاجزة عن استيعاب التنوع العرقي للجنوبيين في مؤسسات الدولة، وهو ما يؤدي إلى صراعات عرقية وإثنية ممتدة، تجعلها في حالة مضطربة. وبتحليل الخطاب السياسي لكل من البلدين تجاه الأزمة الحالية، يمكن القول إنه يتماثل مع فلسفة التعبئة السياسية وقت نشوب الحرب الأهلية، فقد أعلنت حكومة السودان التوجه نحو إلغاء الاتفاقات مع دولة الجنوب وإعلان التعبئة العامة وتسخير كل إمكانات البلاد لرد «عدوان» الجيش الشعبي، وبجانب هذه الإجراءات، تم الإعداد لتعبئة حزبية استخدمت فيها مصطلحات «النفرة الشعبية»، وهي حالة لازمت الحرب الأهلية وساهمت في تكوين معسكرات تدريب المتطوعين وفي التعامل مع مسألة «هجليج» بالطريقة ذاتها التي تعاملت بها مع تحرير توريت في أيلول (سبتمبر) 2002، أما حكومة الجنوب فركزت على تثبيت المكتسبات التي حققتها وتعمل على تعزيزها بتوسيع جبهة النزاع والعمل للحصول على إسناد دولي يقر بالأوضاع القائمة وترسيم الحدود في ظلها والتهديد بتوسيع نطاق الصراع في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق. أزمة الدولة مع إعلان استقلال دولة جنوب السودان في تموز (يوليو) 2011 واجه دولتي السودان نوعان من المشكلات؛ النوع الأول منها، حيث يواجه كل منهما مشكلات داخلية مزمنة، تتمثل في ضعف القدرات السياسية والاقتصادية وتفاقم أزمة الاندماج الوطني، وقد انعكست هذه المشكلات في الخلاف بين الأحزاب السياسية والجماعات الإثنية حول مسائل المشاركة في السلطة وتقاسم الثروة. وكان من الملاحظ أنه رغم تغير حدود دولة السودان والإعلان عن دولة جديدة، لم تجر انتخابات تشريعية جديدة تكسب النظام السياسي شرعية سياسية ترتكز على الأوضاع الجديدة مما كان عاملاً رئيسياً في تفاقم التوتر فيما بين الأحزاب والجماعات الإثنية في البلدين، وهنا يمكن الإشارة إلى أن انتخابات نيسان (ابريل) 2010 فقدت شرعيتها باستقلال جنوب السودان، ومن ثم، فإن عدم إجراء انتخابات جديدة ساهم في التباعد ما بين «المؤتمر الوطني» (الحزب الحاكم) وبين الأحزاب الأخرى وتحالف المعارضة (التجمع الوطني الديمقراطي)، وعلى غرار ذلك، تطبق الحركة الشعبية في جنوب السودان سياسة استيعاب للكيانات السياسية للتوحد خلف مشروع «السودان الجديد» من دون وضوح أفق للمسار السياسي، سواء من حيث الترتيب لانتخابات تشريعية أو وضع صيغة للتعبير عن التنوع السياسي والاجتماعي. في هذا السياق يمكن القول، إن استمرار التوتر السياسي في دولة السودان سيؤدي الى مزيد من التباعد بين الحكومة والمعارضة، بحيث يصير الجدل السياسي حول مدى شرعية السلطة الحاكمة (المؤتمر الوطني) بعد «انفصال الجنوب»، وهو ما يضعف تماسك الدولة، حيث تبلورت مطالب تحالف المعارضة في ضرورة إجراء انتخابات عامة تعبر الدولة وفقاً للحدود الجديدة وكتابة دستور جديد، وفي هذا السياق ترى أن الحكومة القائمة لا تحظي بالشرعية السياسية، وأن تحالف المعارضة سيعمل على إسقاطها. يمكن تفسير مقولات المعارضة السودانية هذه بأنها تثير نوعاً من عدم الاستقرار السياسي. أما النوع الثاني من المشكلات، فهو ما يتعلق بالسياسة الخارجية والتي لا تتعلق فقط بصياغة السياسة الخارجية مع دول الجوار، لكنها تتعلق أيضاً بصياغة العلاقات الثنائية والترتيب لحدوث انتقال سياسي من حقبة الحرب الأهلية وبناء علاقات سلمية وتطوير المصالح المشتركة. وهناك عامل آخر يضعف فرص الاستقرار، هو ما يرتبط بتزايد التوتر في دول الجوار، سواء للطبيعة المزمنة للصراعات في دول القرن الأفريقي أو التغيرات التي تشهدها بلدان شمال أفريقيا، وهذا ما يؤثر سلباً في الأوضاع السياسية لدولتي السودان، بسبب ضعف تأثير دول الجوار في كبح الأزمة الداخلية في السودان. وعموماً، يمكن القول إن تفاقم الأزمة السياسية في السودان، يعد كاشفاً عن تواضع الإنجازات السياسية وتناقض المسار السياسي، وهو ما يضع البلدين في حلقة مفرغة، تنعكس آثارها على دول الجوار، لذلك يصير من المطلوب في المرحلة الحالية إعادة النظر في كثير من السياسات والبدء بإجراء انتخابات حرة كبديل عن التحضير لحرب طويلة. * كاتب مصري