لا يدّعي الفيلم اللبناني «رصاصة طايشة» تقديم دروس في التاريخ. ولا يرفع شعارات رنانة أو يرجّح كفة فريق على فريق. يسرد سيرة عائلة يتآكلها التفكك، وبالموازاة يقتنصّ سيرة وطن يسير نحو الانتحار. «رصاصة طايشة» فيلم لإحياء الذاكرة. ذاكرة بلد لم يطو صفحة حرب أرهقته سنوات. وذاكرة شعب وجد نفسه في غمرة أحداث مأسوية قادته إما الى مستشفى الأمراض العقلية وإما الى الهجرة وإما الى الموت وإما الى المجهول. فيلم يلعب القدر دوراً أساسياً في حبكته وأحداثه ومصير شخصياته. وربما كان للقدر نفسه دور في توقيت عرضه في الصالات اللبنانية تزامناً والتطورات الدراماتيكية التي يعيشها لبنان. فالفيلم الذي تدور أحداثه صيف 1976 في فترة هدنة أعقبت حرب السنتين وسبقت الحروب الكثيرة المتعاقبة على لبنان، يبدو وكأنه في توقيته هذا، يذكّر بالعبارة التي رددها ماركس يوماً نقلاً عن هيغل قائلاً: «إن التاريخ يعيد نفسه، لكنه إذ يكون في المرة الأولى تراجيدياً يصبح في التكرار هزلياً». صحيح، لا يمكن تحميل فيلم جورج هاشم الروائي الطويل الأول هذا أكثر مما يحتمل. وصحيح أيضاً ان صاحبه لم يكن في وارد تحقيق فيلم يدقّ ناقوس الخطر إنما أراد ببساطة سرد قصة عائلة من زمن الحرب. ومع هذا لا يمكن المرور على الفيلم من دون أن تطل لعبة المرايا بين أفلام الحرب والواقع. «إنها الصدفة المأسوية»، يقول هاشم ل «الحياة»، «ففي بلد، تصبح يومياته أشبه بأرض ملغومة، قد يكون هناك أحداث تمثل انعكاس مرآة بين الفيلم والواقع. وهذا أمر جيد للفيلم. ففي بلد مثل لبنان تتغير الأزمات ويتغير الفرقاء السياسيون، لكن القلق وعدم الاستقرار ثابتان. وإن كان لهذا الفيلم رسالة، مع العلم ان رسالته الأولى تقديم حكاية يتفاعل معها الناس، فهي ان يقول ان بعض البلدان يسيّرها قدر لعين. فحين يكون الإنسان في مكان وزمان مكتوب عليهما عدم الاستقرار، يصبح ممنوعاً عليه ان يعيش حياة كاملة، وبالتالي يصبح كل شيء مرتهناً بفكرة عدم الاستقرار والقلق والخوف من الغد». سينما الحرب واضح ان الحرب اللبنانية لا تزال تدغدغ أحلام السينمائيين اللبنانيين على رغم كل ما قيل عن ضرورة التطلع الى الزمن الراهن وتحقيق افلام من الواقع. وليس «رصاصة طايشة» إلا نموذجاً. ومع هذا يصرّ مخرجه على عدم وضعه في خانة أفلام الحرب مع ان كل ما فيه يشي بأننا امام فيلم من هذا النوع من العنوان الى الإطار الجغرافي والتاريخي وصولاً الى الأحداث. ربما لأن هاشم يعتقد أن الجمهور اللبناني لا يحب ان يعيش حرباً على الشاشات عاشها في الواقع. وربما لأنه لا يريد لفيلمه ان يصنف بين أفلام لم تستفزه كمخرج. أو ربما استجابة، ولو مواربة، لنداءات طالبت بالكفّ عن صنع أفلام عن الحرب. يقول: «أصرّ على القول ان الحرب في خلفية الفيلم، لكنها خلفية لا يمكن ان نبدّلها، ذلك ان القصة تدور عام 1976 في ضواحي بيروتالشرقية، وأي خروج عن خلفية الحرب، يحرّف الفيلم الى طريق أخرى. هناك علاقة عضوية بين هذه الخلفية والأحداث، خصوصاً ان أصداء الحرب في ضمائر الشخصيات. في المقابل لم أصوّر فيلماً عن المعارك، إنما اردت ان أسلط الضوء على أبشع نتائج الحرب: تفتيت نسيج القيم لمجتمع ولطبقة معينة. عنيت الطبقة الوسطى التي دمرتها الحرب. لا يمكن ان ندخل في نفق من التصرفات البهيمية ولا نزال متعلقين بتقاليد وأقانيم وكأننا في مجتمع رخاء ورقي. هذه الازدواجية لم تدم طويلاً. هناك طبقة كاملة مع أقانيمها سقطت. فتتتها الحرب بينما لا يزال المجتمع اللبناني الى اليوم متمسكاً بأقانيم وأخلاقيات هذه الطبقة تمسكاً صورياً مضحكاً مبكياً». ولكن، أليس هذا شكلاً من أشكال أفلام الحرب؟ ثم هل صار عيباً ان تصنع أفلاماً عن تلك المرحلة المأسوية من تاريخ لبنان؟ «أبداً، حقنا الشرعي ان نصنع افلاماً عن الحرب. كما لا يمكن ان نتعاطى مع هذا الموضوع كمحرم. أفهم اللبنانيين ان كانت في رؤوسهم فكرة انهم لا يريدون ان يعيشوا الحرب في السينما بعدما عاشوا مرارة التجربة، وهذا حقهم. ولكن يجب الا يقف هذا عائقاً امامي كفنان، خصوصاً ان دوري يتمثل في إبقاء الذاكرة حية. المسألة في رأيي هي في كيفية التعاطي مع الموضوع. هي مسألة لغة سينمائية. فلكل حكاية زمان ومكان. وعندما تكون القصة في زمن معالمه مؤذية وتحرّك الجرح، تتضاعف مهمة السينمائي لإيجاد لغة سينمائية تقرّب الجمهور من الفيلم وتجعله يتماهى معه». فماذا عن قصة «رصاصة طايشة»؟ دراما... عائلية «نهى» (نادين لبكي) فتاة ثلاثينية على حافة الزواج برجل لا تكنّ له أية مشاعر حب بعد فشلها في الاقتران بمن تحب بعد معارضة والدته بسبب فارق السن. قبل اسبوعين فقط من زفافها تقرر بطلتنا ان تلتقي حبيبها السابق علّه يتخذ موقفاً شجاعاً. وبالفعل يحدث اللقاء الذي يفتح الباب واسعاً على بشاعة الحرب اللبنانية وعمليات الاختطاف والتصفية على الهوية، ما سيغير سيرورة الأحداث قبل ان تحدث الانعطافة الكبيرة بفعل رصاصة طائشة. ولعل ابرز ما يميز هذا الفيلم تسمية الأمور بأسمائها وعدم الخوف من التكلم بلغة شارع مسيحي من زمن السبعينات مُعبّأ ضد المخيمات الفلسطينية وسكانها. «غالباً ينتظر من الفيلم اللبناني ان يقول كل شيء، وكأنه واجب على الفنان ان يخضع لقاعدة 6 و6 مكرر (المحاصصة بين المسيحيين والمسلمين). لكنّ أحد اهم شروطي عندما صنعت هذا الفيلم كان ان اتناول البيئة التي أعرفها. وفي رأيي الحكاية الجيدة هي التي تدور في مكان وزمان محددين». ولعل هذا الخيار بالذات لم يفهمه عدد من الحضور في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي ممن هالهم أن يسمعوا في الفيلم عبارات شتائم قاسية ضد الفلسطينيين، ما دفع بعضهم الى انتقاد المخرج. اما هاشم فيردّ على هؤلاء قائلاً: «ساذج من يعتقد أن الحروب البشعة التي اندلعت بين فئات من اللبنانيين والفلسطينيين تمت من دون ان يكره الناس بعضهم بعضاً. لو لم تثر غرائز الحقد لما حدث كل هذا الصراع. في الفيلم نوع من مواجهة الذات. فالحكاية تدور في يوم واحد في مناطق مسيحية. بالتالي على الحكاية ان تكون دقيقة وموثقة وواقعية في هذا الزمان والمكان. وبرأيي أفضل طريقة لنخدم القضية الفلسطينية هو ان نسلم الكلام عنها والنضال فيها الى أهلها. وثانياً ان نوقف التعامل معها انطلاقاً من مقولة من الحب ما قتل». اما الردّ الأبلغ على هذه الانتقادات، فكانت أولاً بمنح المهرجان القاهري فيلم هاشم جائزة أفضل سيناريو، والأهم بمنح المخرج الفلسطيني المخضرم ميشال خليفة وزملائه في لجنة تحكيم «المهر العربي للأفلام الروائية الطويلة» «رصاصة طايشة» جائزة مهرجان دبي. ولم يكتف الفيلم اللبناني بجولة المهرجانات العربية إنما كانت له محطات في مهرجانات دولية مثل جائزة أفضل صورة في المهرجان الدولي للفيلم الفرنكوفوني في نامور (بلجيكا)، وجائزة أفضل تعبير فني في مهرجان «ميدفيلم» لأفلام بلدان المتوسط في روما. ثلاثة أقانيم ربما يكون في الأمر صدفة ان تتقاطع عناصر الفيلم الرئيسة (العائلة، الوطن، الله)، وان اختلف الترتيب، مع شعار حزب «الكتائب» الذي من المرجح ان العائلة التي يصوّرها تنتمي إليه. وربما كان هذا الأمر منذ البداية في بال المخرج الذي اراد أن يرصد كيفية تطبيق الشعار على ارض الواقع. وفي الحالين عرف المخرج كيف يعبّر بواقعية عن بيئة مسيحية يعرفها عن قرب بأسلوب أقرب الى الحسّ الأنثوي العابق بالأحاسيس. «لا أدري ما المقصود في الحسّ الأنثوي. فإذا اعتبرت المرجعيات والكليشيهات ان الفيلم الذكوري هو الفيلم المباشر الذي يتعاطى مع أمور ذهنية ويقدم رسالة مقتضبة وصريحة، يمكن اعتبار فيلمي فيلماً أنثوياً لأنه فيلم حساس وحسي في الوقت ذاته. وقد يكون من احد الأسباب ان مديرة التصوير امرأة، كما انه، وبإيحاء مني ومن السيناريو، كنا في سعي لاهث إلى تصوير الطبيعة، والتوقف عند التفاصيل». «رصاصة طايشة» بهذا المعنى إذاً فيلم أنثوي، وهو أيضاً كذلك لأنه يعطي المرأة الدور الأبرز ويجعلها تتمرد على واقعها وكأنها صدى لحكايات التحرر التي سطرتها نساء في العالم الغربي في سنوات الستينات. يقول هاشم: «قد يكون تمرد «نهى» في مكان ما صدى لترددات كثيرة لأفكار تحررية عاشها العالم في الستينات. ولكن هذا امر جانبي لأن شخصية «نهى» كان يمكن ان تكون في اي زمان ومكان. كما ان توقها للاستقلال ليس مظهراً من شعارات زمن معين وكأنها تريد أن تساير الموضة، إنما هو قرار دفين. إنها شخصية نسائية صامتة تكبت مشاعرها، لكنها عنيدة في الوقت ذاته. شخصية صادقة مع نفسها، من هنا لا تجد مكاناً في المجتمع المحافظ الذي تعيش فيه». شخصية صعبة تألقت في أدائها نادين لبكي، تماماً كما تألق ممثلون آخرون ليسوا نجوماً سينمائيين حكماً، فبعضهم له تجارب في المسرح وبعضهم في التلفزيون وبعضهم ممثلون غير محترفين، ما يحيلنا الى إدارة تمثيل محترفة. «في فيلم بناؤه السردي يعتمد على عدد من الشخصيات يصبح اختيار الممثلين أمراً مهماً جداً لأنك توكلين إليهم المهمة الأساسية. وبمقدار ما يكون هناك تناغم في عملهم بمقدار ما ينجح الفيلم. ما يهمني بصراحة روحية الممثل وطريقة تعامله مع العمل الفني والعلاقة الشخصية بيننا اكثر من مدى جدارته او ما إذا كان ممثلاً قديراً أم لا. ولا أفشي سراً ان نادين لبكي اتفقت معها قبل 8 سنوات على ان تكون بطلة فيلمي الأول. ولم يشكل لي اي عائق انها مثلت في أفلام أخرى، مع العلم انها اثبتت شغفها بالتمثيل. ومنذ البداية كنت على يقين انها موهبة فذّة وممثلة سينمائية من قماشة نادرة. هذا كان محفِّزاً لي أن أعمل معها ونأخذ تحدي تجسيدها شخصية صعبة فيها تحولات كثيرة. وهنا يجب الا انسى بقية الممثلين من تقلا شمعون الى بديع ابو شقرا الى نزيه يوسف وباتريسيا نمور وبولين حداد. ولعل هذا المزيج من ممثلين آتين من آفاق متنوعة شكّل العملية الأكثر متعة في الفيلم». مسرحة السينما إذا كان جورج هاشم عُرف في الأوساط المسرحية قبل ان يتجه الى السينما، فإن المسرح لم يغب عن فيلمه الروائي الطويل الأول. يقول: «المسرح موجود، أولاً، من حيث شكل الفيلم الذي يقوم على حكاية تدور في يوم واحد. ثانياً، يلعب القدر في القصة دوراً كبيراً قريباً جداً من شكل المأساة الإغريقية. وهذا من أساس المسرح. ثم ان تركيبة الفيلم ليست ذهنية إنما هو فيلم سردي درامي يعتمد على الشخصيات، ويلعب فيه الحوار دوراً يقرِّبه الى المسرح بمكان ما. اما إخراجياً، فهناك استعمال للتصوير المواجه، وكأن الشخصية على منبر. وما يبرر هذا قوة الموقف التي تعطي طابع ما فوق المألوف. وهذا كله يردنا الى المسرح الذي يسمح بالتعبير عما فوق المألوف. باختصار، عندما تتناول السينما هذه المواضيع تصبح المسرحة أداة من أدوات الإخراج السينمائي». هاشم الذي ردّد أمام الجمهور البيروتي أثناء العرض الأول لفيلمه ان أقصر طريق لتلقيه هو طريق القلب، يخشى ان يدخل المشاهد إليه بأفكار مسبقة، «خصوصاً انها افكار مشوشة عن الحرب. فلو كانت هناك نظرة متعالية عند اللبنانيين حول الأزمة لما كانت ذيولها مستمرة كل هذا الوقت».