مطلع الشهر الجاري، بدا كل شيء معدّاً بحذاقة كي يسجّل الرئيس القرنفلي المزاج دونالد ترامب هدفاً محكماً في شأن المناخ، بل ربما مجموعة أهداف بضربة مفردة. وعلى رغم ذلك، أخطأت الكرة مرمى كان يبدو مفتوحاً تماماً. لم يسجّل ترامب سبقاً في سحبه توقيع أميركا على «اتفاق باريس - 2015» للمناخ، بل بدا ذلك تكراراً سقيماً لما فعله الرئيس جورج دبليو بوش (الابن) الذي ما إن اعتلى سدّة الرئاسة عام 2001، حتى بادر إلى سحب توقيع سلفه الرئيس الديموقراطي بيل كلينتون عن «اتفاق كيوتو - 1997». آنذاك، كان «كيوتو» هو الاتفاق الملزم الوحيد في شأن اضطراب المناخ، بل استمر كذلك إلى أن حلّ «اتفاق باريس» بديلاً منه. إذاً، لم يسجّل ترامب سبقاً في ذلك، بل وقع في فخ الظهور كرئيس تقليدي من الحزب الجمهوري يكرّر الكليشيهات التقليدية لذلك الحزب في شأن المناخ، إذ ما فتئت تلك الكليشيهات تتكرر كأسطوانة مشروخة منذ الخطاب الشهير للرئيس رونالد ريغان عام 1980 الذي استهله بعبارة نالت صيتاً واسعاً: «لستُ عالِماً، لكني أحس بأن القول بمسؤولية نشاطات البشر عن التلوث واضطراب المناخ، يشبه القول بأن جبل «سانت هيلانة» يفعل كذلك»! ومنذ ذلك الحين، صار موقفاً تقليدياً للحزب الجمهوري رفض تصديق الأدلة العلميّة عن مسؤولية النشاط البشري في تلوّث الغلاف الجوي للأرض مع ما يرافقه من تفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري في الكوكب الأزرق. وعلى غرار ما فعل ترامب بعده بعقود، لم يرفض الرئيس الجمهوري جورج ووكر بوش (الأب) الأدلة العلمية التي عرضت في القمة الأولى التي ناقشت ذلك الأمر، وهي «قمة الأرض» Earth Summit التي استضافتها مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية عام 1992. وآنذاك، اكتفى بوش بأن وعد بتوقيع «بيان قمة الأرض» بعد عودته إلى واشنطن ومناقشته في الكونغرس. وبدهي القول أن الأمر أفضى إلى عدم توقيع بوش أول اتفاق دولي تناول مباشرة ظاهرة تفاقم الاحتباس الحراري ومسؤولية البشر عن الاضطراب الكوارثي في المناخ، خصوصاً اعتمادهم على الطاقة المتأتيّة من الوقود الأحفوري التقليدي. الابتكار العلمي رهن بالمال العام إذاً، بدا ترامب مجرد تكرار، على رغم سعي فريقه إلى إدخال تنويع على المعزوفة التقليدية للحزب الجمهوري عبر تشديد سكوت برويت رئيس «برنامج إدارة البيئة» Environment Program Administration على عدم رفض ترامب الأدلة العلمية عن العلاقة بين نشاطات البشر واضطراب المناخ، بل اقتصار الأمر على اعتبار «اتفاق باريس» غير منصف للاقتصاد الأميركي، خصوصاً الطاقة والصناعة التقليدية. وطاش ذلك السهم بمجرد إطلاقه، بل تاه في خضم النقاش العارم الذي رافق الانسحاب من «اتفاق باريس». وتصدرت شركات المعلوماتية والاتصالات المتطورة («مايكروسوفت»، «فايسبوك»، «آبل»، «آمازون»...) قائمة من 28 شركة عملاقة عارضت الانسحاب من «اتفاق باريس» للمناخ. وتعطي تلك الشركات الاقتصاد الأميركي حيوية فائقة يأتي جزء منها من حجمها الاقتصادي الهائل، وإمساكها بالشطر الوازن من جبهة الابتكار العلمي الذي يدفع بالاقتصاد الأميركي إلى أمام، كما يساهم في صنع مرتبته المتفوقة عالمياً. نعم، هناك درس أساسي في الابتكار الأميركي لم تدركه «مقاولة» ترامب بالانسحاب من «اتفاق باريس»، أشّر إليه بوضوح الانسحاب الغاضب والمشهدي للمبتكر - المستثمر إيلون ماسك، مباشرة عقب إعلان خطوة ترامب في شأن المناخ. ويعرف عن ماسك أنه مؤسس شركتي «تيسلا موتورز» التي تقود الابتكار الأميركي في صناعة السيارات الكهربائية، و «سبايس أكس» التي سجّلت سبقاً في ابتكار صاروخ فضاء قابل لإعادة الاستخدام، وهي أول شركة أميركية تشارك وكالة «ناسا» للفضاء في مغامرة اكتشاف الكون. درس صارم من مستثمر - مبتكر تحت عيون كاميرات الإعلام العام، تلقى ترامب ضربة ساحقة عبر مغادرة ماسك اجتماعاً لمجلس استشاري رئاسي مختص بشؤون التكنولوجيا، معلناً انسحابه نهائياً من ذلك المجلس الذي تتمثّل مهمته في نصح الرئيس في شأن علاقة الابتكار بالاقتصاد الأميركي. واللافت أن ماسك اختار التعامل إيجاباً مع ترامب (على عكس معظم المهتمين بشؤون الابتكار في أميركا) عبر انضمامه إلى ذلك المجلس، لكن سحب توقيع أميركا من «اتفاق باريس» أدى إلى خروجه غاضباً ورافضاً تصرفَ الرئيس في شأن المناخ. قد لا يصلح شخص دليلاً على الدرس العميق الذي لم يقرأه ترامب في الابتكار، أكثر من شركة «تيسلا موتورز» التي وضعت لنفسها هدفاً يتمثّل في ابتكار سيارة كهربائية متوافقة مع البيئة، وبكلفة تجعلها قابلة للانتشار الواسع. لماذا؟ لأن «تيسلا» أبصرت النور بفضل الدرس الذي فات ترامب: الابتكار والبحث العلمي والتقني في أميركا الحديثة يعتمدان أساساً على أموال الدولة وقطاعها العام، على رغم شيوع صورة معاكسة لذلك. نعم، في قلب أميركا الحديثة، تلعب الدولة دور المحرّك الأساسي لمسار الابتكار، فتستفيد الشركات منه في صنع مبتكرات مرتبطة بالاقتصاد ونموه وتطوّره، بل تقدّمه على اقتصادات الدول كلها. وفي 2015، وضع أوباما ذلك الدرس في قلب «اتفاق باريس» عبر تعاونه مع 20 دولة (بينها الصين والهند، الأكثر تلويثاً للغلاف الجوي، مع أميركا بالطبع) في تأسيس صندوق لدعم بحوث للحصول على الكهرباء من مصادر الطاقة النظيفة والمتجدّدة. وحمل الصندوق اسم «المهمة هي الابتكار» Mission Innovation، ما يؤشّر إلى العمق العلمي فيه. ويعتمد على مضاعفة ضخ أموال حكومية إلى بحوث الطاقة لتصل إلى 20 بليون دولار سنويّاً عام 2020. ويعتمد مساره ومصيره على أموال الحكومة الأميركية التي تقدّم حاضراً 6.4 بليون دولار، ولكنها وعدت بمضاعفة المبلغ في موازناتها المقبلة. كيف يتصرّف ترامب في شأن استمرار صندوق «المهمة هي الابتكار»؟ هل ينجح الصندوق في تذكير الرئيس الشعبوي بأساسيّات في العلاقة بين الدولة الأميركية من جهة، والعلوم والتكنولوجيا والبحوث والمبتكرات المتقدمة من الجهة الأخرى؟ الكهرباء تحسم مصير هواء الكرة الأرضيّة قد يذهب الظن إلى أن وصوله الزلزالي إلى المكتب البيضاوي كأول رئيس أفريقي- أميركي، هو الإرث الأبقى للرئيس السابق باراك أوباما [الأرجح أنه كذلك في السياسة]، وربما مع أشياء قليلة أخرى كخطابه المذهل في «جامعة القاهرة» الذي أوحى إلى عقول كثيرة بإمكان الوصول إلى عالم أفضل. وخابت آمال واسعة عقدت على أوباما في السياسة والثقافة، لكن يرجح أن تحتضن البيئة بصمة بارزة وإيجابيّة تركها ذلك الرئيس. في أواخر عام 2015، أظهر أوباما إرادة صلبة عندما وضع توقيع أميركا على «اتفاق باريس للمناخ» بوصفه اتفاقاً ملزماً للدول كلها، بل أعاد الالتزام الدولي الشامل إلى جبهة المناخ التي وهنت بعد تقادم «اتفاق كيوتو» (1997) الذي مهره الرئيس الديموقراطي بيل كلينتون بتوقيع لم يثبت حبره طويلاً على ورقها. بعد هنيهة، جاء الرئيس الجمهوري جورج دبليو بوش وشلة «المحافظين الجدد». ومسح بوش توقيع كلينتون، وأعاد الولاياتالمتحدة إلى خانة عدم تصديق علوم المناخ ورفض الاقتناع بتفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري، وتالياً التخلي عن جهود إنقاذ الأرض من كارثة بيئيّة ماحقة تلوح نذرها متتالية في اضطراب المناخ وتقلّباته الحادة، وميله المستمر إلى سخونة متفاقمة. بيل غيتس غرّد في سرب أوباما على رغم الحبور الذي رافق إقرار المؤتمر الباريسي في 2015، فإنّه خلا من التقدّم على جبهة العلوم، خصوصاً الطاقة النظيفة. وحتى لو تحقّقت كل الالتزامات التي وعدت بها الدول في المؤتمر، فالأرجح أن تستمر حرارة الأرض في الارتفاع بقرابة 2.7 (أو 3.5) درجة مئويّة، وهو أمر كارثي تماماً. وفي أروقة المؤتمر، التمعت بارقتا أمل في ذلك الصدد، جاءت إحداهما من بيل غيتس المؤسّس الأسطوري ل «مايكروسوفت»، الذي أعلن «التحالف لأجل اختراق علمي في الطاقة» Breakthrough Energy Coalition. ووفق ما ورد أعلاه، استطاع أوباما التأثير في الدول العشرين الأشد تلويثاً للهواء (خصوصاً أميركا والصين والهند) لتوقيع معاهدة «المهمة هي الابتكار» التي تلزمها مضاعفة الإنفاق على بحوث الطاقة النظيفة لتصل إلى 20 بليون دولار سنويّاً عام 2020. «فالس» الشركات والدولة في تجربة أوباما لم تكن ولاية الرئيس الديموقراطي باراك أوباما سوى مشهدية ضخمة لاقتحام الدولة عوالم تقنيات للطاقة النظيفة والبديلة، وسلعها ومبتكراتها. وفي ظل اقتناع علميّ بأن الخلاص من التلوّث رهن بالحصول على الكهرباء من مصادر نظيفة، تدفّق ما يزيد على 100 بليون دولار بين عامي 2009 و2011 على البحوث والمبتكرات المتصلة بالطاقة النظيفة. وواكب مستثمرو القطاع الخاص المشهد بمضاعفة استثماراتهم من 460 مليون دولار سنويّاً إلى ما يزيد على 5 بلايين سنويّاً، ما مثّل زيادة تبلغ قرابة عشرة أضعاف! وبين عامي 2004 و2014، استثمر القطاع الخاص حوالى 36 بليون دولار في تقنيات الطاقة النظيفة، متشجّعاً بموقف حكومي تصاعدت إيجابيّته في عهد أوباما. وفي ظل ذلك التدفق، أتيح لإيلون ماسك أن يؤسّس شركة «تيسلا موتورز» التي اعتبرت أيقونة تلك المشهديّة الفوّارة من التفاعل بين الدولة والنشاط الخاص. واعتبرت «تيسلا» نجاحاً، على غرار شركتي «سولار سيتي» Solar City التي صارت أبرز شركات أميركا في صناعة ألواح الطاقة الشمسيّة، و «أوبووير» Opower العملاقة في مجال برامج الكومبيوتر العلميّة في شأن الطاقة النظيفة. وسرعان ما انتهت تلك الفورة تحت تأثير تفاعلات سياسيّة تأتّت من فشل بعض الشركات التي مولّها المال العام (المثال الأبرز كان شركة «سوليندرا» Solyndra)، فتراجع الإنفاق الحكومي إلى أقل من النصف بكثير، مترافقاً مع تراجع استثمار الشركات بقرابة 75 في المئة. بقول آخر، أثبت التراجع «المزدوج» للأموال العامة والخاصة، الدرس الأساسي القائل إن التقدّم في تقنيات الطاقة وابتكاراتها وعلومها، هو رهن بمدى إقدام الحكومة على ضخ الأموال العامة إلى علومها وتقنياتها. (نفتح قوساً للقول إن الدرس عينه يحضر أيضاً في مجالات أخرى كالتسليح والمعلوماتية والاتصالات، لكنه أمر يحتاج إلى نقاش أوسع). ولم يفت قادة 28 شركة عملاقة في قطاعات اقتصادية متنوّعة ذلك الدرس، بل قرأوا خطوة ترامب بالانسحاب من «اتفاق باريس» في ظل خلاصاته، فكان ما كان. هل يعود ترامب لقراءة دروس الابتكار والتكنولوجيا في بلاده، فيغيّر تصرفه حيال «اتفاق باريس» وآلياته، أو يعدّله؟ هل يغرق ذلك الدرس في لجة السيول السياسيّة المتفاقمة التي تضرب ولاية ترامب، بل باتت تهدّده مباشرة إلى حدّ الحديث عن تحقيق مباشر معه، على غرار التحقيق الشهير الذي قاده المدعي العام كينيث ستار مع بيل كلينتون إبّان فضيحة مونيكا لوينسكي؟ صندوق «باندورا» مليء بكوارث القطب الشمالي لعل الضربة الأقسى التي وجّهت إلى الانسحاب الأميركي من «اتفاق باريس»، جاءت من جهة دأب الرئيس دونالد ترامب على مغازلتها طوال حملته الانتخابيّة (بل مجمل مساره المهني والإعلامي والسياسي)، وهي الشركات الكبرى. فقد وقّعت 28 شركة أميركيّة عملاقة بياناً ضد الانسحاب من «اتّفاق باريس». وبشيء من التدقيق، من المستطاع تشبيه ذلك البيان ب «صندوق باندورا» الذي رسمته أساطير الإغريق باعتباره مخزناً يحوي الكوارث كلّها، إذ حمل توقيع شركتي نفط تعتبران الأضخم أميركيّاً («إكسون موبيل» و «كنوكو فيليبس»)، ما يعني أنّ القطاع الاقتصادي الذي يفترض أن يكون المستفيد الأول من قرار ترامب، كان أول المحتجّين عليه. تقريع من بيتسبرغ وانتخاباتها والتزاماتها زاد في آلام تلك الضربة أن وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون ترأسّ لسنوات طويلة «إكسون موبيل»، بل جاء إلى منصبه السياسي مباشرة بعد خروجه من تلك الشركة النفطية العملاقة. وقبيل استقالته منها، وقّع إعلاناً مع الدول المتجاورة في القطب الشمالي، يشدّد على أهمية «اتفاق باريس» بالنسبة إلى مصير تلك البقعة الحسّاسة من الكرة الأرضيّة. وزاد في حرج الموقف، أن ذلك البيان حمل أيضاً توقيع غاري كوهن، رئيس بنك «غولدمان ساكس» آنذاك، مع الإشارة إلى أنّه من المستشارين المقرّبين من ترامب. وتردّد في أروقة واشنطن أن تيلرسون وكوهن يعملان على تخفيف عواقب الانسحاب الأميركي من «اتّفاق باريس»، وظهر ذلك في تصريحات تيلرسون عشية الانسحاب من الاتفاق، شدّد فيها على أنّ الولاياتالمتحدة تنفّذ فعلياً إجراءات لحماية البيئة لا تقل عن تلك التي يتضمّنها الاتفاق، خصوصاً عبر «مبادرة الهواء النظيف» Clean Air Initiative التي أقرّها الرئيس السابق جورج بوش (الأب). وإذ تفاخر ترامب في تغريدة على «تويتر» بأنّه انتخب «من أجل مدينة بيتسبرغ (القلب التاريخي لصناعة الحديد والصلب التقليدية في أميركا)، وليس باريس»، سارع رئيس بلدية تلك المدينة إلى التذكير بأن 80 في المئة من أصواتها ذهبت لمصلحة منافسته آنذاك هيلاري كلينتون، بل أعلن بوضوح أن بيتسبرغ تستمر في التزام «اتفاق باريس» مستخدمة سلطاتها المحلية كمدينة كبرى.