الأرجح أن وصول الرئيس دونالد ترامب إلى سدّة الرئاسة، أشّر الى متغيّرات كثيرة، أبرزها فقدان ثقة جموع واسعة من الشعب الأميركي بالمؤسّسة السياسيّة الأميركيّة، بداية من نظام الحزبين الذين يتداولان السلطة تاريخيّاً في «بلاد العم سام»، وليس انتهاءً باهتزاز الثقة بالمؤسّسات الأمنّيّة والاستخباراتيّة بعد زلازل ثقيلة من وزن ضربات الإرهاب في 11/9 وفضائح التجسّس الإلكتروني الشامل ل «وكالة الأمن القومي» وغيرهما. في ظل مناخ واسع من اهتزاز الثقة الشعبيّة بالمؤسّسات الأميركيّة، ظهرت وجهات نظر متفاوتة عن المآلات المتوقّعة لذلك الوضع، خصوصاً البدائل الممكنة لتلك المؤسّسات. وبرز رأي يقول إن المدن الكبرى ربما تشكّل البديل الملائم للسلطة المركزيّة. رأى البعض في ذلك جزءاً من مسار عام ربما يشمل معظم البلدان، بأثر من تصاعد الميل إلى سكنى المدن الكبرى التي باتت تستضيف ما يزيد على نصف البشريّة! ونَحَت مجلة «فورين آفيرز» لتبني ذلك الرأي، بل أفردت أحد أعدادها عام 2016 لعرض تلك الرؤية. في المقابل، عبّر مايكل بلومبرغ، العمدة السابق لمدينة نيويورك ومؤسّس مجموعة ماليّة- إعلاميّة تحمل اسمه، عن رأي مماثل، في مقال نشرته مؤسّسته الإعلاميّة في موقعها الإلكتروني وعرضته على شاشاتها التلفزيونيّة. ورأى بلومبرغ أنه حتّى لو تحكّم حزب مفرد بالكونغرس والبيت الأبيض، تبقى المصالح الخاصّة سيّدة الموقف. وإذ وافق ترامب على سعيه لإصلاح الخلل في المؤسّسة السياسيّة الأميركيّة، أعرب عن يأسه من ذلك المسعى معتبراً أن الخلّل عميق تماماً، مستدلاً على ذلك بالمزاج الصدامي الذي طغى على انتخابات عام 2016. ولاحظ وجود إمكان لأن تتسارع وتيرة التوجّه القائل إن تواصل السلطة الفعليّة ابتعادها عن واشنطن، رمز المؤسّسة السياسيّة التي احتكرت تاريخيّاً تلك السلطة، لأن الصراع بين الحزبين يدمّر الأفكار الجيّدة والنقاش الصادق. من التعليم إلى الصحة في المقابل، دعا بلومبرغ بوضوح إلى انتقال السلطة إلى المدن. وفي مدن الولاياتالمتحدة، يختبر رؤساء البلديات قدراتهم على حل المشكلات عبر سياسات مبتكرة، بل يحصل ذلك غالباً بالتعاون مع المواطنين الشركات، وفق بلومبرغ. وضرب مثلاً بالتعليم، مع تشديده على أنّ نجاح أمر ما في المدن يجعله قابلاً للانتشار في الولايات الأميركيّة. «في مدينة «نيو أورلينز»، يساعد رئيس البلدية ميتش لاندريو في قيادة عملية إعادة هيكلة للتعليم المهني في المدينة. وكذلك يتولّى تعريف الطلاب القادمين من العائلات المتدنية الدخل على فرص تعلّم مهارات علميّة- عمليّة من شأنها أن تُترجَم إلى وظائف في قطاعات اقتصاد عدّة... الأهم أن ذلك يحصل مع دعم قوي من مجتمع رجال الأعمال. وفي «رود آيلند»، يتعلّم الأهالي كيفيّة السماح لأولادهم بالتفتح على عدد أكبر من الكلمات في سنّ الحضانة، بالنظر إلى أنّه يصنع الفارق بين التفوّق في الدراسة والفشل فيها»، وفق بلومبرغ أيضاً. وتناول بلومبرغ مسألة البنى التحتيّة التي تعتبر من صلب أعمال السلطة المركزيّة. ولاحظ أنّ مدناً أميركيّة كثيرة ك «سياتل» و «هيوستن» و «فينيكس» و «ديترويت»، تولّت بنفسها تجديد البنيّة التحتيّة للمواصلات فيها، تحديداً الشوارع والأوتوسترادات. وفي السنة الجارية، تسعى «هيوستن» للحصول على إذن لبناء خط قطار سريع يمتد من دالاس إلى هيوستن. وبيّن بلومبرغ أن المدن تخوض بكفاءة معركة صحيّة محوريّة تتمثّل في مكافحة البدانة، وهي من أخطر المشكلات التي يواجهها قطاع الصحة العامة في أميركا. «إنّ المشروبات المُحلاّة هي من أهم أسباب البدانة. وفي عام 2016، اعتمدت خمس مدن (مع مقاطعة كوك التي تضم مدينة شيكاغو) ضرائب أثبتت قدرتها في الحدّ من استهلاك تلك المشروبات»، وفق كلماته أيضاً. المناخ... المناخ يعتبر المناخ واضطرابه والاتفاقات في شأنه من صلب عمل السلطات المركزيّة، خصوصاً أنّه ظاهرة تشمل الكرة الأرضيّة، ما يجعل التصرّف في شأنه مناطاً بالمراكز الكبرى لصنع القرار عالميّاً. وفي أميركا تحديداً، شكّل المناخ محكّاً دائماً للمؤسّسة السياسيّة المركزيّة، خصوصاً الاتفاقات الدوليّة بصدده. في مثل معبّر، سحب الرئيس الجمهوري جورج دبليو بوش توقيع سلفه الديموقراطي بيل كلينتون عن «بروتوكول كيوتو» للمناخ الذي كان الاتفاق الملزم الوحيد بصدد تلك المشكلة. وقاد الرئيس الديموقراطي باراك أوباما جهوداً أدّت إلى ظهور «اتفاق باريس- 2015». ووضع أوباما توقيعه عليه، في ما يهدّد سلفه ترامب بالانسحاب منه. وتشير المعطيات السابقة إلى أن المناخ شأن السلطة المركزيّة بامتياز، بل أنّ المؤسّسة السياسيّة في واشنطن، تعتبره مسألة... حزبيّة! في المقابل، يبيّن بلومبرغ أنّ رؤساء بلديات البلدات الصغيرة والمدن الكبيرة، يرون في المناخ دافعاً لتنظيف الهواء وإدخار المال المنفَق على الطاقة، وتشييد بنية تحتية حديثة، وحماية أنفسهم من الظروف المناخية القاسية، واستقطاب شركات جديدة إليها. وكذلك يقرّون بأنّ الحدّ من انبعاث غازات التلوّث المسبّبة لارتفاع حرارة الأرض، يجعل مجتمعاتهم أكثر سلامة وديمومة. ويعرب بلومبرغ عن قناعته بأنّه بغضّ النظر عن الطريقة التي يتعامل بها ترامب مع «وكالة حماية البيئة الأميركيّة»، وطبيعة القوانين التي يعتزم تقديمها للكونغرس، يفترض بأميركا أن تفي بتعهّداتها المبرمة في «اتّفاق باريس». ويُرجِع ذلك إلى أنّه من مصلحة المدن والشركات والمواطنين مواصلة دعم الإجراءات الآيلة إلى الحدّ من الانبعاثات الملوّثة للمناخ، ما يمنع واشنطن من عرقلتها. ويلاحظ أن مكافحة التغيّر المناخي لم تكن يوماً معتمدة في شكل أساسي على واشنطن التي تهرّب غير رئيس من التزام اتّفاقاتها. وفي الوقت ذاته، قادت الولاياتالمتحدة العالم على صعيد الحدّ من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. «بفضل جهود المدن والشركات والمواطنين، هناك إصرار واضح على مواصلة المضي قدماً. وفي الواقع، وفي حال انسحبت إدارة ترامب من «اتفاق باريس»، سأوصي بصفتي رئيس «المجمع العالمي لرؤساء البلديّات»، رؤساء بلديات المدن الأميركية (128 مدينة)، بالانضمام إلى الاتفاق في حال انسحاب ترامب منها. لولا توجّهات الرئيس ترامب، لحقّ للمدن توقع دعم قوي من واشنطن، لكنّها لا تتوقّع ذلك عمليّاً. ولمعرفة الوجهة المقبلة لأميركا، لا تتبعوا العناوين الرئيسيّة التي تتداولها المؤسّسة السياسيّة في البلاد، بل شاركوا في الجهود المحليّة للمدن، لأنها هي المسرح الحقيقي للحوادث»، يقول بلومبرغ.