سعدي الكعبي مِن أبرز الفنانين العراقيين الذين استلهموا الموروث الحضاري لبلادهم، فانعكس في معالجاته للأسطح أو صياغاته للعناصر التي استخدمها من شخوص إلى كتابات وعلامات ورموز ذات إيحاء. مرَّ الكعبي بمنعطفات إبداعية لم تخل من قرارات حاسمة وفجائية، من بينها ما أقدم عليه في منتصف ثمانينات القرن الماضي حين جمع كل ما لديه من أوراق وكتابات تخص فنه وأحرقها، لأنه خاف –كما يقول- من الإحساس الزائف بالتميز والعبقرية الذي تكرسه الكتابات والمقالات التي كادت تصيبه بالعجز والشلل الفني. يقول سعدي الكعبي أنه حين تخلص من هذه الكتابات والمقالات التي تجمعت لديه طوال ثلاثين عاماً شعر بأنه أحرق الصورة المثالية التي رسمت له، ووجد نفسه جالساً أمام مساحة اللوحة كما كان في بداياته الأولى، حراً طليقاً. يقيم الكعبي حالياً في الولاياتالمتحدة الأميركية التي استقر فيها بعد خروجه من العراق عام 2005 ومن هناك يواصل ممارسة فنه غير منفصل عن الواقع العراقي والعربي في شكل عام. أخيراً نظمت قاعة إبداع للفنون في القاهرة معرضاً لأعمال سعدي الكعبي ضم مجموعة كبيرة من أعماله التصويرية والغرافيكية. أقيم المعرض تحت عنوان «خطاب الصمت»، وهو يفسح المجال للتعرف إلى ملامح تجربته الإبداعية التي وصفها الفنان العراقي ضياء العزاوي بأنها «منحازة لبناء عمل لوني غاية في الاقتصاد، يمنحها طاقة غنية للتأويل، ومساحة واسعة في التفسير، وفي الوقت نفسه تمنحه تميزه الواضح في التجربة العراقية». عن تأثره بالموروث العراقي ومحيطه البيئي يقول الفنان سعدي الكعبي: «الموروث الحضاري والثقافي لأي شعب يسري في دمائه، ويوقظ كوامن الإبداع الذي تصقله الرؤية والثقافة البصرية. ولقد مرت بالعراق ما يزيد على ست حضارات أشهرها سومر وبابل والحضارة الأكادية وآشور ثم الإسلام. وتتخلل هذه الحضارات موجات استيقاظ تركت تأثيراً على الإنسان، ولا يمكن من قرأ هذا التاريخ الطويل إلا أن يعتز بانتمائه إلى هذا الوطن. الفن العراقي القديم يتميز بالمواجهة، حيث نجد الأشخاص يتجهون دائماً الى الأمام سواء كانوا ملوكاً أو أفراداً عاديين. وهناك عنصر يميز المنحوتات العراقية بخاصة في حضارة بابل وهو الحالة السحرية التي تسيطر على ملامح الوجه وبخاصة العيون الواسعة التي تنظر إلى ما وراء الأفق، وهذه الحالة من الصعب مشاهدتها في الأعمال الفنية الحديثة على رغم كونها من المفاهيم الأساسية التي تدور حولها. في أعمالي حاولت أن أتمثل تلك الحالة من دون أن أقع في شرك التقليد، لذا لم أرسم العيون وهي أبرز ما يميز هذه المفردات، بل حاولت أن أتمثل هذه الحالة السحرية في أشياء أخرى ربما تراها في التركيبات أو الدرجات اللونية أو علاقة المفردات ببعضها داخل اللوحة. ويضيف: المتأمل لأعمالي يلاحظ أن هناك سمات نحتية تبدو واضحة، وهو منحى لا أستطيع أن أفصله عن الفن الأشوري وما كان يتميز به من نحت العملات، مروراً بتأثيرات الحضارة الإسلامية من خزف وسيراميك وخط، ثم المؤثرات الحديثة والمشاركات المتعددة في المهرجانات المحلية والدولية. للصحراء وجود قوي وواضح في أعمال سعدي الكعبي، فهي ماثلة في درجات اللون وفي حيادية العناصر وفي استلهامه للعديد من المفردات المرتبطة بها، فما هي خلفية وتأثير هذا الارتباط بالصحراء؟ - نشأتُ في النجف، وهي مدينة صحراوية، يقل فيها التباين في الألوان إلى حد ما. فلون الرمال يطغى على الملابس والبشرة والأدوات المستخدمة من نحاس وفخار وغيرها. هذه الأشياء تركت في نفسي أثراً بصرياً يصعب محوه من الذاكرة، ولا بد له أن يقفز أمامي على سطح اللوحة بلا وعي متمثلاً في هذا الحياد والألوان الرمادية. تعتبر نفسك هاوياً، وبهذا المعنى نجحتَ في تحقيق بعض ما تريد في ظل ظروف ثقافية واجتماعية غير مشجعة، لكنك تؤمن بأن الفن موجَّه إلى الخاصة وغير متاح إلا لمن يستوعب طبيعته فما هي بواعث هذه القناعة؟ - الفن يحتاج إلى ثقافة لاستيعابه، فحين تسأل الشخص هل تعرف بيكاسو يقول لك نعم، وحين تريه صورة لبيكاسو لا يفهمها، لذا يجب التفرقة بين معرفة الشيء وفهمه أو استيعابه، وكذلك الموسيقى يجب على المتلقي لها أن يكون لديه خزين سمعي. فالفن يحتاج إلى وعي وثقافة ومعرفة بهوية العمل الفني. ألا تعتقد أن في هذا القول شيئاً من التعالي على المتلقي والمجتمع؟ - اللوحة لا يفهمها إلا من له دراية وثقافة، فالخاصة من الناس هم الذين يستطيعون فهم العمل الفني، وهو ليس تعالياً ولكن هذه هي الحقيقة. هل يجب أن يعبر العمل الفني عن هوية الفنان؟ - نعم يجب أن يحمل العمل هوية ما وإلا كان منفصلاً عن تجربة الفنان. أنا أستطيع التعرف إلى هوية الفنان من خلال أعماله. قد تتمثل هذه الهوية من خلال الموروث الحضاري، وفي أعمالي تستطيع أن تلمح ذلك عبر روح النحت البارز مثلاً، وهو أمر كان موجوداً في العراق منذ بداية الحضارة السومرية إلى الأشورية. هناك الكثيرون ممن يقعون في ذلك الفخ ويقلدون المدارس والاتجاهات الجاهزة من دون محاولة للإيجاد خصوصية، لإرضاء الجمهور أو مغازلة الغرب في بعض الأحيان. هل ينتقص من الفنان أن يكون متأثراً بثقافة أخرى؟ - لا ينتقص منه بالطبع، ولكن عليه أن ينتقل من محليته أولاً إلى آفاق مختلفة. هناك فنانون كبار من أمثال جياكوميتي وبيكاسو أخذوا من الفن المصري والعراقي، لقد انطلقوا من ثقافتهم، للنظر في ثقافات الآخرين. أذكر أن أحدهم سألني ذات يوم عن تأثير العولمة على الفن العراقي، فقلت له نحن جميعاً متعولمون، فاللوحة غربية في هيئتها، لكنها تتحدث بلغة شرقية. الشكل والروح يختلفان في العمل الفني وهما أصل الهوية الفنية. أما من يرون أن فنون ما بعد الحداثة قد أزالت الحواجز بين الثقافات فهم مخطئون. هناك جدل يدور الآن بين الجنوب والشمال، هم يريدون أن نتعولم لكننا لا يجب أن ننساق وراء رغباتهم. نعم هناك الكثير من المفردات التي نتعامل بها في حياتنا العادية جاءت من الغرب ولا نستطيع الاستغناء عنها إلا أننا حين نتعامل مع هذه الأشياء لا يجب أن ندعها تتملكنا بل يجب أن نملكها نحن ونضفي عليها شيئاً من حضارتنا وثقافتنا وهويتنا. هم يقولون إن العالم أصبح قرية صغيرة وليس هناك مجال أو ضرورة للتمسك بالهوية والثقافة المحلية، وأقول إن العالم كبير ونحن تائهون فيه ولا يدري بنا أحد. وقد يرى البعض أن هذه نظرة متخلفة أو قصيرة إزاء الثقافة ولكني مؤمن بأنها ضرورة ملحة بخاصة في أيامنا هذه. أنا إنسان شرقي أؤمن بالعائلة والأرض والعشيرة ولي سماتي الخاصة التي تميزني والتي لا يمكن أن أتنصل منها. على مستوى الفن أحرص على متابعة المعارض والاتجاهات الفنية في أنحاء العالم، وفي الوقت نفسه، أتحاشى الذوبان في الآخر. تلمح ذلك في أعمالي التي لا أقلد فيها أحداً أو أتمسح في ثقافة أخرى. كيف تنظر إلى الحركة الفنية العراقية والعربية عموماً؟ - الحركة التشكيلية العربية في حاجة إلى مخاض، وهذا لا يأتي إلا بالاستقرار الاقتصادي المرتبط بالحالة السياسية. في ظل الاستقرار المادي يمتلك الفنان القدرة على التوسع والانتشار. الضغوط تؤثر في إبداع الفنان بالسلب بخاصة المادية منها. الحركة التشكيلية العربية أكثر تقدماً من الحركة النقدية، التي لا تتعدى المقالات أو التقارير الصحافية. الكثير ممن يكتبون عن الفن لا يرون فيه غير المساوئ والسلبيات. أنا أؤمن بشباب الفنانين العرب ولديَّ قناعة بأنه حين يرفع الغطاء عنهم سيغيرون الواقع المرير الذي نعيشه. حضارتنا عريقة لا تهزم أبداً لكننا مهزومون مدنياً وتكنولوجياً، وعلى كل منا أن يبدأ ويثق بما يستند إليه من ثقافة وحضارة ضاربة في عمق التاريخ. مَن من الفنانين كان له التأثير الأبرز على تجربتك؟ - تأثرتُ في البداية بأساتذتي في كلية الفنون الجميلة ثم بإبداعات الفنانين العالميين إلى أن وصلت إلى درجة من الاستقرار والخصوصية. الفنان العراقي إسماعيل فتاح الترك هو الأقرب إلى قلبي وأعتبره من أعظم الفنانين العراقيين على الإطلاق لما كان يتميز به من عبقرية وخصوصية فريدة في تناوله لأعماله المتعددة. كيف تبدأ العمل في اللوحة؟ - أحياناً تكون عندي رغبة في العمل، فيصيبني القلق، وأدرك حينها أن هذا قلق فني، وقد تكون الفكرة جاهزة ومختمرة في ذهني قبل الجلوس أمام اللوحة، وأحياناً أخرى تأتيني الفكرة أمام مساحة الرسم. الفنان عادة عندما يبدأ العمل الفني يبدأ بوعي، يجهز نموذجاً أو رسماً سريعاً، يقترب من العمل ويبتعد، يتألق، يرفض أو يقبل أشياء. وأعتقد أن الفنان يحتاج في أثناء العمل إلى أن يكون في غيبوبة واعية، وأشبهها بسائق السيارة، حين يقود سيارته على غير هدى ولا يعرف أين يذهب. في أثناء العمل تصبح اللوحة متألقة والفنان متألقاً أيضاً، ولكن تبقى اللوحة متألقة ويعود الفنان إلى طبيعته، فاللوحة أبقى من الفنان. الفنان متغير الوضع أما اللوحة فهي ثابتة. كيف أثرت الغربة في تجربتك، وهل وجودك في مجتمع مختلف ثقافياً كان له تأثير في نظرتك للفن؟ - العالم قرية صغيرة، وأستطيع بسهولة أن أتحرك بين الشرق والغرب في أيام قليلة، فوجودي في مكان بعيد من الوطن ليس له تأثير في تجربتي، ولكن له تأثير في مشاعري وإحساسي، فأنا في أميركا في أمان عقلي، ولكن أماني النفسي هو مع جيراني وأحبابي، وأنا كشخص أشعر بأنني أركب قطاراً منذ خروجي من بغداد ولم أصل بعد إلى نهاية الطريق.