من الأصوات الشابة التي باشرت الانخراط في كتابة الشعر، وبالأخص كتابة قصيدة النثر جورج كميل شلهوب. ومجموعته الشعرية الصادرة حديثاً عن الدار العربية للعلوم – ناشرون (2016) هي الثانية، بعد عمله الأول بعنوان «أجلس أُحصي المتناثر سهواً من عمري» عن دار نلسن (2013). ولكن، قبل الكلام على أسلوب الشاعر جورج شلهوب، ومحاولة النفاذ الى عالمه ومواضيعه الأثيرة، لا بدّ لي من توضيح أمر، هو بديهي بالنسبة إلي ناقداً، وقارئاً ذا خبرة تخوّلني إبداء رأي معلل في الشعر، أنّ النقد إن هو إلا إضاءة على نواح ربما لم يتحْ للشاعر الالتفات اليها، ولا هو قادر على التقاطها، لعدم اختصاصه في ذلك، ولأنّ منطلقه الذاتي لا يسمح له اتّخاذ هويّتين في آن معاً: عنيت هوية الشاعر وناقد شعره في آن معاً. وفي ما يتجاوز الإشارة المتأنية الى مواضع التميّز، بالاتّكاء على أدوات نقدية مستمدّة من العلوم ذات الصلة (السيميولوجيا، السيمياء، البلاغة، علم النفس التحليلي، وغيرها)، في شعر الشاعر، لا يطمح النقد مطلقاً الى إيثار تصور أدبي، أو فرض توجّه معيّن على القرّاء أو على الأديب موضوع المساءلة. وإنما عمله مقصور على قراءة المنجَز من الشعر، وتبيّن ملامحه التي انتهى اليها في النص المدروس، ومرافقة الشاعر أو الروائي في مساره الأدبي والإطلالة على الجوانب المضيئة في العمل، وتلك التي تحتاج الى بعض الجهد لتخرج الى النور. كتاب جورج شلهوب الثاني «خبأتُ الحياة ولا أعرف كيف أجدها»، يطرح أمام القارئ عدداً من النقاط نعالجها تباعاً. ففي مستهل الكتاب الذي يهديه الى «عقل العويط» الشاعر يضعنا جورج كميل شلهوب في مناخ مثقل «بالفراغ»، من خلال القصيدة الأولى بعنوان «بروفة» (ص:11) ولا يلبث أن يثنّيه بالكلام على حياته باعتبارها «سيرة معطّلة» (ص:12) في نوع من التناص مع كتاب للشاعر عبده وازن بهذا المعنى، وفي تنمية أقلّ لما أورده الأخير. ولدى تتبعنا سائر القصائد في الكتاب، نجد أنّ الشاعر يستعيد، أو يعاود معالجة القضايا والطروحات، بل المسلّمات التي كان شعراء قصيدة النثر اللبنانيون، لما بعد الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، قد تناولوها، عنيت بها: تذرر الكائن، وشعوره بالضيق، وجعل الذات، أي ذات الشاعر-الكائن موضوعاً للشعر (قاع، ص»18) يحكي تحولها على نحو دراماتيكي، إذ تصير موضعاً لتغييب كيانه المعنوي («فتحتُ ها قاعا / حين رأته / نزلت فيه»). ذلك أنّ الشعر في قصيدة النثر، على ما يستتبعه الشاعر شلهوب، إن هو إلاّ إعادة تكوين لمعنى وجود الكائن، وسط المعضلات الكبرى التي تعترض حياته، مثل ضيق المكان الدال على غربة الكائن المستفحلة عن بيئته وبيته، وعبث سعيه الى التقاط تفاصيل عن سيرته (كذبة، ص:21) واستحالة الاتّكال على مرجع الحياة المادية، والدوران حول هوية غير ثابتة وسط العالم، يعبّر عنها في نص لافت (سهو، ص:24) بإيجازه وصوره المتلاحقة والمترابطة والرامزة الى مسار الكائن المتكسّرة حلقاته بين ذاتيّة مفرطة في وحدانيتها وبين ألوهية غائبة، وبين طرق الى الخارج صادمة. في المحصّلة الأخيرة، تكاد تكون غالبية المواضيع والأفكار التي طرحها الشاعر جورج كميل شلهوب تتفق الى حدّ كبير مع تلك التي سبق لشعراء قصيدة النثر، في ثمانينات القرن الماضي (من أمثال بسام حجار، عباس بيضون، وديع سعادة، عبده وازن، عقل العويط، عيسى مخلوف، اسكندر حبش، فوزي يمين، يوسف بزي، عناية جابر، وغيرهم الكثير)، أن عالجوها. ولكن ذلك لا يعني أنّ لكل من هؤلاء عالماً متفرداً، وأسلوباً خاصاً جديران به. وللشاعر شلهوب سمات خصوصية، في السعي الى بناء مشهدية الكائن –الشاعر على نحو يلخص دراميته، أو شعريّته الناتئة الى الخارج. ويمكن الاستدلال عليها من خلال ظواهر: *التكرار: «أكلمكِ لا أكلّمكِ..»(ص:20) «أن تستيقظ.. أن تذهب.. أن تفلش...،(ص:26) *البحث العبثي عن: «أفتح الفايسبوك، أفتش عن صديقي...(ص:49) *الصور الشعرية اللقى: «قلبي جعبة موتى..(ص:88) «وضع حياة لتتسلّقه» (ص:84) «السماء التي نسيت أن تسقط ظلت معلّقة في متاهته» (ص:78) «الكلمات محطّمة كصحون منسية بعد شجار».(َص:74) ومظاهر أخرى تحتاج الى وقفة أكثر شمولاً. كتاب ثانٍ للشاعر شلهوب، وخطوات واثقة نحو اكتمال التجربة الشعرية، وتمكّن النضج منها.