في حادثة مروّعة وشنيعة أثارت الرأي العام وصدمت الشارع السوري لفظاعتها، يظهر لنا مدى تشبّث بعضهم بموروث تقليدي صار جزء منه ولو ظاهرياً من مخلّفات ماضٍ سحيق، وبمحاكاة رهيبة لمسألة وأد البنات أيام الجاهلية. فقد قام أحد الأشخاص بقتل طفلته الرضيعة التي لم تبلغ بعد من العمر تسعة شهور، فقط لأنها أنثى ومن المحتمل أن تجلب له العار يوماً؟! ففي مطلع الشهر الحالي، ألقت الشرطة القبض على أب قتل ابنته الرضيعة بأسلوب وحشي، إذ ضربها ضربات عدّة على الرأس كانت لوحدها كفيلة بمقتلها. ولم يكتفِ بذلك، بل عَضّها في أماكن مختلفة من جسدها حتى تُصبّغ بالأزرق. وكما روى أقاربه، فإنه غضب وثار حين علم أن الجنين الذي تحمله زوجته أنثى، فهو يكره الإناث لأنهن الشرّ والشيطان بذاته، وحين تكبر البنت يمكن أن تجلب له مشكلات طوال عمرها، فهي حتى لو كانت برفقته في الشارع يمكن أن تتسبب في شجار فيما إذا تعرّض لها أحدهم بالتحرّش اللفظي أو ما شابه. ثمّ وكما أفاد، يكفي أنها ستتزوج برجل سيكشف عورتها ويغتال شرف الأسرة، مُتناسياً أن من أنجبته امرأة والتي تزوجها وحملت بتلك الطفلة امرأة. وفي المقلب الآخر، نجد أن المرأة وعلى الدوام مُدانة حتى لو ثبتت براءتها، أو حين تتعرّض مُرغمة للتحرّش أو الاعتداء الجنسي والاغتصاب من أشخاص يحملون المورثات والأفكار التقليدية العفنة ذاتها، التي لا ترى في المرأة سوى أداة لإرواء شهوات دنيئة، أو وسيلة لإضعاف الخصم وإذلاله أثناء الحروب والنزاعات، باعتبارها الحلقة الأضعف والأكثر هشاشة. فعلى رغم كل ما لاقته وتُلاقيه نساء سورية من ويلات وكوارث الحرب المستمرة منذ سنوات سبع، وعلى رغم الثمن الباهظ الذي دفعنه سواء باستشهاد الأبناء والأزواج ودمار ملاذهن الآمن من سكن وأسرة، أو عبر الخطف والاغتصاب والقتل، باعتبارهن مشجب الشرف بكل تبعاته في مجتمع لا يرى هذا الشرف إلّا من خلالهن فقط، مُتناسياً ومتجاهلاً الأفعال البعيدة من الشرف والتي يقوم بها الرجال، سواء تلك الحروب التي تدمّر الحياة والمجتمع بكل مكوناته، أو تلك الأفعال الشنيعة التي يعتبرها كل طرف مصدر إذلال للطرف الآخر. على رغم هذا لم يزل المجتمع للأسف يحتفظ بمفاهيم لا تزال متشبثة في تلافيف الذهنية الاجتماعية التي تدين المرأة ولو كان الأمر خالياً حتى من أدنى شبهة، وهناك قصص كثيرة سمعنا عنها من إدانة نساء بريئات، وبالتالي خسارتهن حياتهن الأسرية وتشويه سمعتهن في المجتمع. فها هي سناء الزوجة والأم، والتي تعرّضت للخطف من جهة مجهولة مدة يوم كامل، ثمّ وُجِدت مُلقاة على أحد الطرق الدولية منهكةً وخائرة القوى، وعلى رغم إصرارها على عدم تعرّضها للاغتصاب، وتأكيد الطبيب الشرعي الذي عاينها أمام زوجها بعدم تعرّضها للاغتصاب، فقد طلّقها زوجها من دون أدنى شعور بالذنب تجاه من عاش معها قصة حب كانت حديث القاصي والداني، أو إحساس بالمسؤولية تجاه أبنائه الذين منعهم حتى من رؤيتها، فقط للتخلّص من مجرّد الشبهة، وكي لا يُعيّره الأهل والمعارف والجيران بزوجة مخطوفة ربما تعرّضت للاغتصاب، غير عابئ بالظلم الذي وقع عليها كزوجة وأم وأنثى في مجتمع لا يرحم، حتى باتت تعيش حالة هذيان وذهول استحوذ عليها كليّاً. بالتأكيد، سناء ليست المرأة الوحيدة التي لاقت هذا المصير، بل هناك نساء عدة لم نعلم بهن، تُركن لمصير مجهول ومرعب بحكم التفكير التقليدي العفن الذي لا يرى من الشرف سوى ما يتعلّق بسلوك المرأة وسيرتها. وهنا، أليس بإمكان أولئك الرجال المتشبثين بما يعتبرونه شرفاً مسّه رجال آخرون، أو حاولوا ولو مجرّد التعرّض له، أليس بإمكانهم أن يكونوا رجالاً بحق، ويعملوا على حماية أولئك النساء ودعمهن نفسياً واجتماعياً حتى يتم تلافي تشريد أسرة بكاملها، إن لم نقل موت المرأة اجتماعياً ونفسياً؟ ثمّ ألا يمكن هؤلاء أنفسهم أن يتعرّضوا إلى مثل ما تعرّضت إليه المرأة من اغتصاب لا يرحم امرأة ولا رجلاً ولا طفلاً زمن الحرب؟ هل يقبلون مجرد الإدانة أو التهمة من المرأة؟ أم يعتبرونها عديمة الوفاء لا يمكنها الصبر على ما ابتُلي به الرجل لتكون سنداً ودعماً له؟ لماذا تكون المرأة في تلك الحالة عديمة الوفاء، بينما يكون الرجل عديم الشرف، مطعوناً برجولته اجتماعياً إذا قبل بما لاقته زوجته أو ابنته أو أخته من خطف أو اغتصاب خارج عن إرادتها في مطلق الأحوال؟ لذا، نجد أن أكبر وأفظع ما تواجهه المجتمعات التي تشهد حروباً وأولئك العاملين في حقل المعالجة النفسية وإعادة التأهيل، هو المصير المأسوي الذي تُلاقيه المغتصبات أو المختطفات من نبذ اجتماعي وتشرّد بعد فقدانهن ملاذهن الأسري الذي سيؤدي حتماً إلى أزمات نفسية وصحية خطيرة يعانين منها، ما يُعيق الإسراع بنهوض المجتمع من كوارث الحرب وويلاتها، إذ يغدو أمام حرب من نوع آخر. حرب لا تُسفك فيها دماء، ولا تُدمّر بيوت ومرافق، وإنما تدّمر شريحة واسعة من نساء تحمّلن بصبر وعزيمة وشجاعة تبعات الحرب الأولى، وبدل أن يتم استيعابهن وتخليصهن من آلامهن النفسية والجسدية والروحية، تُضاف إليها آلام أشدُّ فظاعة وقهراً لأنها أتت من أقرب المقربين روحاً ودماً. فهلّا صحونا مجتمعاً وأفراداً من سُباتِ قيم وتقاليد ومنظومة تفكير بالية تُعيق تطور الفرد، بقدر ما تُعيق تطور المجتمع؟ وهلّا أعدنا التفكير والنظر إلى المرأة عموماً على أنها إنسان كامل الأهلية والمشاعر والإنسانية جنباً إلى جنب مع الرجل شريكها في صوغ الحياة أنشودة مساواة تامة في الحقوق والواجبات؟