آخر عام 1967 فوجئ أستاذ التاريخ في جامعة هارفارد هنري كيسنجر، بالتحاق الضابط الإسرائيلي عوزي ناركيس، بصفوف الجامعة. كانت شهرة ناركيس قد سبقته الى الولاياتالمتحدة، كونه قاد الكتيبة الرابعة التي اقتحمت شوارع القدس القديمة. والمؤكد أن الانتصارات المدوية التي حققها العسكريون على مختلف الجبهات أخافت رئيس الوزراء اشكول، بدليل انه أبعد رئيس الأركان اسحق رابين وعينه سفيراً في واشنطن. كما أعطى ناركيس إجازة طويلة استغلها لاستكمال تخصصه في جامعة هارفارد. حدث مرة أن نوقش في الصف موضوع الهيمنة العسكرية، فإذا بالضابط الإسرائيلي ناركيس يعرب عن تأييده للاحتلال، ويستشهد بعبارة لنابوليون مفادها: «إن الذي يحتل بلداً مدة خمس سنوات ولا يلقى مقاومة، باستطاعته الاستمرار في الاحتلال مدة خمسين سنة». ولم يكن الطلاب الذين استمعوا الى هذه الملاحظة بحاجة الى تأكيد أن الضابط الإسرائيلي كان يلمح بطريقة غير مباشرة الى فكرة الاحتلال الطويل الأمد في فلسطين. عندئذ انتقده كيسنجر بسبب تجاهله للتداعيات السياسية في المقارنة، قائلاً: يصعب على الولاياتالمتحدة أن تبقى هي وإسرائيل في جهة... بينما تقف كل دول العالم في جهة أخرى! ومع أن صيغة التعاون الكامل بين الدولتين لم تهتز طوال ستين سنة تقريباً، إلا أن عزلتهما الدولية بعد فشل المفاوضات المباشرة قد أجهضت المسيرة السياسية. أو بالأحرى أجهضت محاولات الرئيس باراك أوباما الذي أعلن بلسان وزيرة خارجيته هيلاري كلينتون، أن السلام في الشرق الأوسط لم يعد في متناول اليد. والسبب، كما فسره المراقبون، هو تراجع شعبية الرئيس أوباما في الانتخابات الأخيرة واقتناعه بأن قضية الشرق الأوسط لن تسهم في تجديد انتخابه لولاية ثانية عام 2012. خصوصاً إذا اضطرته الانتكاسات التي يواجهها ممثله جورج ميتشل، الى الضغط على إسرائيل لتقديم تنازلات موجعة. وفي ضوء هذه الوقائع، أبعد أوباما مستشاره العسكري الجنرال جيمس جونز – المعروف بتعاطفه مع حقوق الفلسطينيين – واستبدله بنائبه توم دونيلون. عندما قبل جورج ميتشل القيام بمهمه المبعوث الخاص الى الشرق الأوسط، اشترط إعفاءه من متاعبها فور تحقيق اختراق يؤمن استمرار المفاوضات. وكان من المفروض أن تنتهي هذه المهمة مع آخر عام 2010. ولكن الوزيرة كلينتون التي اختارت ميتشل لهذا الدور، ألحت عليه بعدم الاعتزال. وفي تقديرها أن إعلان وفاة المسيرة السياسية معناه إسقاط محمود عباس وإحياء فرص الانتفاضة الثالثة. لهذا السبب وسواه، طلب ميتشل مهلة تسعة أشهر من أجل الوصول الى «اتفاق إطار» يتضمن التسويات الأساسية لقضايا الوضع النهائي تمهيداً لاتفاق سلام. كما اقترح أيضاً محادثات متوازية في واشنطن بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل. ولكن القيادة الفلسطينية الممثلة باللجنة التنفيذية لحركة «فتح»، قرأت في اقتراح ميتشل فرصة إضافية لاستكمال بناء المستوطنات في القدسالشرقية. خصوصاً أن النهج الجديد في المفاوضات غير المباشرة لن يحدد آليتها الزمنية أو الجغرافية. ومعنى هذا أن مكان انعقادها لن يكون حكراً على واشنطن أو رام الله، بل قد ينقل الى القاهرة أو عمان. وبما أن نتانياهو يضع موضوع الأمن وحماية الحدود في مقدم اهتماماته، فقد طلب أوباما من مستشاره دنيس روس التوجه الى إسرائيل، بهدف البحث في حاجاتها الأمنية. علماً بأن الوزيرة كلينتون كانت قد لبت الكثير من هذه الحاجات خلال اجتماعها بنتانياهو مدة سبع ساعات، ومنحته وعوداً باستخدام الفتيو في مجلس الأمن إذا نجح العرب في إعلان دولة فلسطينية في الجمعية العامة. كما وعدته أيضاً برزمة من الطائرات الحربية المتطورة، إضافة الى وجود إسرائيلي دائم في غور الأردن. يقول المراقبون الديبلوماسيون أن حركة «حماس» أجهضت كل المساعي العربية الداعية الى مصالحتها مع «فتح» بغرض مواجهة الديبلوماسية الإسرائيلية بموقف موحد. ذلك أن رئيس وزراء الحكومة المقالة اسماعيل هنية أعلن صراحة أن الحركة لن تعترف مطلقاً بإسرائيل. وهذا معناه العودة الى خطة سلام فياض لإعلان دولة فلسطينية عام 2011. ومثلما استخدم اليهود الجمعية العامة في تشرين الثاني (نوفمبر) 1947، هكذا يستخدم الفلسطينيون هذه الجمعية للحصول على دولتهم، شرط ألا تمارس واشنطن حق الفيتو، بحيث يجري التعامل مع الدولة الجديدة – القديمة، من موقع السيادة والاستقلال. وهذا ما أشارت إليه حنان عشراوي في صحيفة «نيويورك تايمز»، عندما طالبت بضرورة استخدام المجتمع الدولي لإحقاق حق الشعب الفلسطيني ومنحه الدولة التي يستحقها بعد أكثر من نصف قرن من المماطلة والتأجيل. وكان لافتاً في هذا السياق مشروع الاقتراح الألماني الذي أعلن باسم الدول الأوروبية الخمس الكبار، إيطاليا وفرنسا وبريطانيا وإسبانيا وألمانيا. ويستنكر المشروع سياسة الرفض الإسرائيلية، ويهدد بالاعتراف بالدولة الفلسطينية في مجلس الأمن. ومثل هذا الطرح السياسي الذي يدعمه أوباما سراً، بدأ في البرازيل والأرجنتين وسائر دول أميركا اللاتينية، على اعتبار أن إسرائيل دفنت كل مشاريع السلام، مثلما دفنت صاحب أول مشروع وهو الكونت برنادوت. وفي الكتاب الموثق وعنوانه «الجدار الحديدي» كامل التفاصيل حول كيفية دفن مبادرات السلام بمعاول إسرائيل. من هنا يرى رئيس حكومة السلطة سلام فياض، أن فشل الرئيس محمود عباس في تحقيق خيار الدولة قد فتح أمامه فرص الخيار الآخر والأخير، أي إعلان دولة فلسطينية تحظى باعتراف دولي في الجمعية العامة ومجلس الأمن. ويرى المفوض الفلسطيني العام في لندن مانويل حسسيان، أن التقديرات الأولية تشير الى احتمال حصول الدولة الفلسطينية على اكثر من ثلثي عدد أعضاء الجمعية العامة، هذا في حال الانطلاق من 57 دولة إسلامية. وقد ظهرت مؤشرات أوروبية تنبئ عن هذا الاتجاه، بدليل أن ألمانيا واليونان وإسبانيا والنروج طلبت من السلطة الفلسطينية رفع مستوى التمثيل الديبلوماسي الى درجة سفارة. وأكد حسسيان أنه وجه الى الخارجية البريطانية رسالة بهذا المعنى، خصوصاً أن خطة الحصول على شرعية الدولة أصبحت هدفاً أساسياً لكل مؤيدي بناء دولة فلسطينية مستقلة. وفي ضوء هذا التوجه، يمكن تفسير التعليق الذي أعلنه الأمير سلطان بن عبدالعزيز خلال ترؤسه الجلسة السابقة لمجلس الوزراء السعودي، وامتداحه البرازيل والأرجنتين كونهما أيدتا خطوة الاعتراف بدولة فلسطينية على حدود 1967. واعتبر الأمير سلطان أن هذه الخطوة تمثل تطوراً كبيراً لجهة الدعم الدولي للحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني. ولكنه في الوقت ذاته، حذر من مغبة التمادي في أعمال الهدم وزرع المستوطنات وتهويد المدينة المقدسة ومحيط المسجد الأقصى المبارك. ويستفاد من هذا الكلام أن الدولة الفلسطينية يمكن أن تولد السنة المقبلة في الجمعية العامة. عندئذ قد تضطر حكومة نتانياهو الى حسم خياراتها بين حلين: إما أن تخضع لإرادة الأسرة الدولية وتفكك المستوطنات، وتبقي بعضها بالاتفاق مع السلطة الفلسطينية. وإما أن تتشبث بموقفها الداعي الى مواجهة الأسرة الدولية، ولو صنفت دولة محتلة. والنتيجة في هذه الحال ستقود الى مزيد من الحصار والتدهور في العلاقات الخارجية، تعقبها عزلة كاملة لا بد أن تتأثر بنتائجها الولاياتالمتحدة إذا ما استخدمت حق الفيتو لمنع قيام دولة فلسطينية. صحيفة «هآرتس» حذرت من عواقب انتفاضة ثالثة إذا وصل الأمر الى هذا المستوى من التحدي. لذلك اقترحت على محمود عباس إعلان إنهاء الصراع، والتخلي عن حق العودة في حال قيام الدولة. وقد رفضت «حماس» و «الجهاد الإسلامي» و «الجبهة الشعبية» وكل منظمات الرفض، هذا الشرط. والسبب في نظرهم أن الدولة المزمع الاعتراف بها ستقوم على 22 في المئة فقط من فلسطين التاريخية. يضاف الى هذا المعطى، أن الفلسطينيين كانوا دائماً ضحايا التاريخ، وأن حق العودة لا ينفذ إلا بإرادتهم لا بإرادة الولاياتالمتحدة. ومثل هذا التحذير ينطوي على استعدادات لشن انتفاضة ثالثة سوف تأخذ شكل الحرب المفتوحة على مختلف الجبهات. وتقول مصادر نتانياهو إن الخطوة الأحادية الجانب ستحرر الحكومة من التقيد باتفاق أوسلو، وستعطيها الفرصة لضم كل الكتل الاستيطانية، وستعفيها من المسؤوليات الإدارية والأمنية في الضفة الغربية. ومثل هذا الوضع المتقيح لا يعبد طريق التفاوض أمام جورج ميتشل، إلا إذا منحه أوباما ضوءاً أخضر، مثلما فعل كلينتون معه أثناء مفاوضات ايرلندا الشمالية. ومن المؤكد أن أوباما لن يقدم على هذه الخطوة الجريئة، لأنه يكون قد حكم على نفسه بالإعدام السياسي! * كاتب وصحافي لبناني