بعد رهان على الاسكندنافية والسينما النسوية، وجد مهرجان استوكهولم نفسه، وهو يدخل عامه الأول بعد العقد الثاني، أمام تحديات «سينمائية» فرضت عليه مراجعة توجهاته والتفكير، على الطريقة السويدية الهادئة، بإجراء تغييرات على ما أراده تميزاً. فالاسكندنافية صارت سمة مهرجان غوتنبرغ، الشقيق، والرهان على سينما المرأة، شائك ومرتهن بعوامل كثيرة يصعب عليه التحكم بها، وهذا ما عبرت عنه مديرته جيت شينيوس، أثناء لقائها بالصحافيين بمناسبة عرض برنامج الدورة الحالية، حين أكدت «أن حصة الأفلام «النسوية» فيها قد بلغت حوالى 23 في المئة»، ونوهت الى انخفاض نسبة المخرجات المشاركات بأفلامهن مقارنة بالعام الفائت وأسبابه كما ترى تعود الى حجم الإنتاج النسوي المحلي والعالمي. فعلى مستوى السويد «لم يكن بين المتقدمين للحصول على دعم معهد السينما السويدي سوى عدد قليل من النساء، بلغت نسبتهن حوالى 10 في المئة من المجموع الكلي وهي قريبة الى نسبة العام الماضي والتي دفعتنا الى إقامة ندوة تحت عنوان: المطلوب نساء مخرجات». وأشارت من دون مواربة: «لقد تخلصنا من ضغط اليوبيلية التي احتفلنا بها العام الفائت، وما يتعلق بالمخرجات ونسبتهن فأنه من المحزن أن تطرح القضية وكأنها مشكلة فالأمر في النهاية يتعلق بالنوعية وليس ب «الحصة» المتروكة لهن» ربما هذه أولى الإشارات للتخلص من «المحاصصة» ومع تلميحها الى زيادة عدد المنتجات السينمائيات فإن التوجه قد اتضح وهذا ما سمح لها بعرض رؤيتها الى مستقبل المهرجان عبر الرهان على الشباب من السينمائيين واختيار الثيمات الإشكالية ومواكبة التطور التقني ليصبح المهرجان طليعياً بهذا المعنى. ولم تفوت جيت الفرصة لتنوه بتخصيص الدورة الحالية حيزاً ل «أفلام التطرف السياسي» وقالت: «ما يهمنا في هذا المجال، هو تلمس قدرة السينما والسينمائيين على نقل هذه الظاهرة السياسية، وكيف يمكن صناعة فيلم يتحدث عن السياسة بمستوى فني جيد كما في «أربعة أسود» الذي سخر من الإرهاب». منطقة خطرة في «أربعة أسود» يذهب الإنكليزي كريس موريس الى منطقة خطرة يتجنب الكثير الوصول إليها، ويعرض بطريقة حاذقة موضوع الإرهاب بأسلوب كوميدي يخفي تحته نقداً شديداً للعنف والأسباب التي تحفزه، من خلال حكاية جمعت أربعة رجال من أصول مهاجرة خططوا للقيام بعمليات تفجير داخل لندن، انتهت بمقتلهم جميعاً، وسببت في أذى كثير من الأبرياء. وضمن نفس خانة «تحت المجهر» عرضت مجموعة من الأفلام منها: «آلهة وبشر» للفرنسي كزافييه بوفوا و «الصياد» للإيراني رافي بيتس وفيه يمس واقع إيران، وكيف يتحول رجل مسالم الى قناص همه الأول اصطياد رجال الشرطة الذين تسببوا في غياب زوجته عن الوجود، لا للسبب، سوى لأنها وجدت نفسها ومن دون دراية منها وسط التظاهرات التي شهدتها إيران بعد انتخاباتها الأخيرة. والى جانبه الوثائقي الإيطالي «دراكويلا». في هذا الشريط تناولت المخرجة سابينا غوزانتي الطريقة التي عالج فيها رئيس الوزراء سيلفيو بيرلوسكوني أحوال المتضررين من الهزة الأرضية التي أصابت مدينة «أكويليا» العام الماضي، فمزجت بين كلمتي (دراكولا) والمدينة المنكوبة (أكويليا) ومن هنا جاء «دراكويلا» ليحمل معنى ضمنياً يمزج بين وحشية رجل السلطة وبؤس المدينة المدمرة. بين وعد السياسي، وكلامه المعسول، وما حصل عليه المتضررون في الواقع. وفي الخيال الآسيوي» حضرت السياسة، أيضاً، في فيلمي «الحفرة» لوانغ بنغ، وتناول فيه معسكرات التأهيل التي كان يزج بها المفكرين والكتاب الصينيين المعارضين لفكرة «الثورة الثقافية». في حين يعود المخرج الياباني كوجي واكاماتسو في «كاتربيلار، دودة القز» الى تاريخ بلاده السياسي خلال الحرب العالمية الثانية من خلال ثنائية الرجل والمرأة، فأحداثه تتمحور بين الزوج العائد للتو من جبهة الحرب ممزقاً بلا أطراف وقد تحول الى ما يشبه الحيوان أو دودة أرض والزوجة الشابة التي كرست كل وقتها لخدمته، ولكن وفي النهاية، تصطدم بحاجز نفسي يمنعها من المضي في هذا الدور الذي فرضه عليها الوعي المبتور لمجتمع الحرب. قليلة هي الأفلام العربية في هذه الدورة، وربما مشاركة الفيلم المغربي «الرجل الذي باع العالم» للأخوين سهيل وعماد نوري في المسابقة الرسمية فيه نوع من التعويض، سيما وأنه متميز في انتمائه الى السينما، فهي تأتي أولاً ومن بعدها تأتي السياسة أو الهاجس السياسي المتمثل في الحرب والخوف من التورط فيها. لقد خاض الأخوان نوري تجربة مثيرة على مستوى الصنعة السينمائية قلما نلمسها في السينما العربية. تمتعا بشجاعة كافية ليحكيا قصة صديقين أحبا نفس الفتاة وبسببها افترقت طرقهما. لقد غرق أكس (الممثل سعيد باي) في عزلة وأدمن المخدرات ولجأ لكتابة حياته في سفر وهمي. فيما سيصدم صديق العمر وناي (الممثل فهد بنشمسي) بالتحول الذي طرأ على علاقتهما واستحالة ترميمها في ظل خطر وخراب كان يزيد من ضغطه عليهما. الشريط يدور كله في مناخ غرائبي لا جغرافية محددة فيه ولا مكان واضح ينتميان إليه، وما عدا اللغة ليتحول الى حكاية كوزموبوليتية، تنتمي الى مناخات الروسي دوستويفسكي، سيما وأن قصته مقتبسة عن روايته «قلب ضعيف». كانت المنافسة شديدة في المسابقة بخاصة أن أفلاماً قوية تشارك فيها مثل «شتاء بوني» لدبرا كرانيك والذي يتوقع له الكثيرون منافسة قوية على جوائز الأوسكار بخاصة أنه عالج قضية المخدرات وعصاباتها القادمة من صقلية ضمن مناخ معزول ونائي. وفيلم فان دانغ دي «نحلة.. لا تخاف!»، «جو بارد» لآرون كاتز و «مملكة الحيوان» للمخرج الأسترالي القادم من عالم الصحافة ديفيد ميشو، وتدور حول عائلة كروي، التي قتلت شرطيين، انتقاماً لموت أحد أفرادها على يد بعض رجال شرطة مدينة ملبورن الأسترالية، كما حدثت في الواقع. فقصة الفيلم استمدها المخرج، ونفسه كاتب السيناريو، من وقائع جريمة حدثت في شارع والش ستريت عام 1988 وراح ضحيتها شرطيان أستراليان. أما فيلم «ميكروفون» للمصري أحمد عبدالله والحاصل على جائزة التانيت الذهبي لأيام قرطاج الأخير فعرض ضمن فئة «منطقة مفتوحة» الى جوار «سوبمارينو» للمخرج الدنماركي صاحب فيلم الدوغما الأول «الحفل» توماس فينتربيرج و «شنغهاي» للسويدي ميكائيل هوفستورم في فيلم إثارة وقصة حب جمعت عميل للاستخبارات الأميركية وصل الى شنغهاي أثناء الحرب العالمية الثانية حين كانت مقسمة بين اليابانيين والصينيين وكيف وجد نفسه متورطاً في صراع استخباراتي معقد وقاس. وعمل كين لوتش الأخير الذي عرض في كان «الطريق الارلندية» ويتناول الحرب من داخل بريطانيا وبالتحديد من ليفربول حيث يعاني العائد لتوه من العراق فيرغوس (الممثل مارك وماك) من توتر شديد إثر وصول جثمان صديق طفولته فرانكي (الممثل جون بيشوب). لقد عانى فيرغوس من عقدة الذنب لأنه هو من قام بإقناع صديقه بالالتحاق بالعمل في إحدى الوحدات الخاصة العاملة في العراق. وعلى رغم اقتراب حبكة الفيلم والمعالجة البصرية لها من أفلام المغامرة فأن لوتش يذهب بعيداً ليكشف عن الجرائم التي كانت هذة الوحدات ترتكبها ضد المدنيين والأبرياء في العراق. وفي مسابقة الأفلام القصيرة يشارك العراقي الواعد المقيم في كوبنهاغن فنار أحمد بفيلم «ميغا هفي» وفيلم الكردي المقيم في استوكهولم كارزان قادر «بيكاس» عرض ضمن خانة «بقعة ضوء». أندرسون فان سانت من تقاليد المهرجان منح تمثال الحصان البرونزي لأحد السينمائيين لمجمل إنجازه الفني وهذه السنة قدمت الى السويدية هاريت أندرسون، لعطائها الكبير خلال ستين عاماً اشتركت خلالها في أكثر من مئة فيلم تحولت بفضلها الى أيقونة في تاريخ السينما السويدية وحظيت بإعجاب انغمار بيرجمان الذي أسند اليها بطولة «الصيف مع مونيكا، 1953» وأشركها في «فاني والكسندر، 1982» كما اشتركت في فيلم لارس فون تيرير «دوغفيل، عام 2002» أما جائزة «رؤى» فذهبت الى المخرج غوس فان سانت لمنجزه الخاص والمتميز، ومواكبته للمهرجان منذ عام 1991 حين عرض له «المضي في اتجاه اداهو» واختتمت دورة عام 2003 أعمالها بفيلمه «الفيل». غوس جاء الى العاصمة السويدية وقابل الجمهور وجهاً لوجه أثناء الاحتفال بتسليمه الجائزة. وفي حقل «رؤى» والذي يمهد لبروز مواهب شابة، كالتي تلمسها منظمو المهرجان عند الشاب الكندي، البالغ من العمر 21 سنة، خافير دولان، فقرروا أن يفتتح فيلمه «نبض القلب» أعمال دورتهم الحالية. وفي «رؤى» يشجع المهرجان على استخدام التقنيات الحديثة في الصنعة السينمائية، كاستخدام الهاتف النقال في إنجاز بعض الأفلام القصيرة جداً، وتطوير مواهب الصغار ضمن حقل «كليو متر فيلم» والمخصص لطلاب المدارس، حيث اختارت دورة هذا العام ستة أفلام قصيرة منها، وضعت كلها تحت تصرف الناس، ليشاهدوها أولاً، على موقع المهرجان الإلكتروني، ويطرحوا، في ما بعد، آراءهم فيها، وهذه واحدة من الطرق التي يعول عليها مهرجان استوكهولم لتحقيق التفاعل الحقيقي بين المشاهد والمنجز السينمائي.