من هنا، من صندوق الدنيا، بمقدورنا مشاهدة فيلم «الزوجة الثانية» (إخراج صلاح أبوسيف)، بعين الطفل الذي ينظر في الصندوق، الذي يحمله رجل فقير، لنجد قريةً غيطانُها خضراء وماء ترعتها فيَّاض. القصة التي كتبها أحمد رشدي صالح، شارك أبو سيف في كتابة السيناريو المأخوذ عنها مع كل من سعد الدين وهبة ومحمد مصطفى سامي الذي انفرد بكتابة حوار الفيلم والذي تزامن عرضه في 14 تشرين الأول (أكتوبر) 1967 مع تخبط مصر في الهزيمة العسكرية والصراع على السلطة بين جمال عبدالناصر وعبدالحكيم عامر. جنةٌ، يستولي عليها عتمان/ صلاح منصور. هو معتمٌ حقاً، لا قرار لطمعه ولا حدَّ لقوته. زوجته حفيظة/ سناء جميل؛ العجوز القبيحة حافظة الكنز والتي لا تنجب، مهما حاولت الاستعانة بالوسائل السحرية. في مقابلهما أبوالعلا/ شكري سرحان؛ العامل الفقير في وابور الطحين، وزوجته فاطمة/ سعاد حسني، أو فاطنة من الفطنة وذكاء العقل والروح. شاهدَ عتمانُ فاطمة وهي جالسة على شاطئ الترعة، حاسرة الثوب عن ساقين مرمريين، تغسل الأوعية، فانتبه إلى كنز آخر من كنوز الجنة لم يستول عليه بعد. أراد عتمانُ أن يكون مضيئاً بالحب والجمال. لم يقهر عتمانُ فاطمة، لمَّا جلَبَها كزوجة له إلى بيته. تركها على راحتها تلعب به وتكذب عليه حتى ظهرت عليها علامات الحمل من زوجها أبوالعلا. خلال ذلك كان عتمانُ السلطوي الذي لا يرحم ضعيفاً؛ قد اختفى وظهر مكانه طفلٌ يريد الحنان والود عبر قبسٍ من الجمال. وخلال ذلك أيضاً، كانت فاطمة قد أدركت، بفطنتها أن عتمان يريدها من داخلها. يريدها بإرادتها هي. يريد روحها قبل جسدها، وكان يظن أن اتحاده بهذا النموذج الجاهز للذكورة السلطوية سيكون شفيعاً قوياً له عندها، لكنه لم يدرك، إلا متأخراً، أن الجَمالَ يهب نفسه لمن يريده هو وليس العكس. أدرك أن الجمال قوة أخرى غامضة تسيج الكون كله، توهَب ولا تُمتَلك. أدرك عتمان هذا على نحو ما، بعد شهرين كانا عامرين بمحاولات التقرب من فاطمة واستمالتها حتى تمنحه ما حُرِمَ منه: الحب والولد. لم يكن عتمان شهوانياً إذاً، بل كان السلطوي الأكثر رقة في تاريخ السينما المصرية. كان الذكرَ الخارقَ؛ الذي لم يجد مفراً من الخضوع لسلطة الجمال، متجسدةً في امرأة تقهرُ من لا تريد؛ ولكن بنعومة ورهافة. أدركت فاطمة ما آل إليه حال عتمان تحت سطوة جمالها، فلاعبَته بقسوة رهيفة، لتحوله إلى فلاح فقير بائس يرصف في أغلال العوز والفاقة. أبو العلا، في المقابل، كان كمن يملك كنزاً لكنه غفل عنه، كان أشبه بآدم في الجنة، يعيش وسط الجمال وفي حضرة الجميل، من دون وعي منه أو تقدير، لما يملكه وما يُعطَى له بسخاء، حتى جاء عتمان من الجحيم ليأخذ منه فاكهته التي كانت تحول مرارة أيامه شهداً وتكلل يومه الحزين بالفرح. بحضور عِتمان، العاشق المشبوب، الذَكر القوي الذي لا يهاب وما يريده يحصل عليه بكل وسيلة أياً كانت، أخلاقية وغير أخلاقية؛ استيقظ أبو العلا العاشق المتيَّم من نومه. كان يستطيع قتل عتمان بسهولة، فالحراسة حوله بائسة تعتمد في قوتها المتوهمة، على خوف الفلاحين المتوارث، من السلطة. أبو العلا لم يرد قتل عتمان العاشق وإنما أراد أن يكونه؛ وهكذا تسلل إلى عرينه وانتهز فرصة خضوعه لغيرة زوجته الأولى، ليختلي بفاطمة التي يدرك أنها أنثاه وأنه ذكرها. كانت حفيظة قد أرادت في تلك الليلة بالذات أن تكون هي فاطمة المشتهاة، فقايضت عتمان على كل شيء، في مقابل الاستحواذ على شغفه بجمال شاء القدر أن تحرم منه. خضع عتمان لقوة زوجته الاجتماعية، ونزل على رغبتها بأن يؤجل النوم مع الزوجة الجديدة، لكنه بقي معها، بقاءً هو الغياب ذاته. تلك الليلة ذاتها نام أبو العلا في سرير العمدة مع فاطمة، وصار هو العاشق المشبوب الجسور، المغامر، الذكرَ الكامل. نام مع فاطمة التي ليست زوجته، وإنما زوجة العمدة وأنجب منها ابن العمدة وفي ظلمة الليل هرب من النافذة كأي لص. مرض عتمانُ وسقط في العجز الكامل، عندما أدرك أن ابنه الذي يروم قدومه من خلال الحب والذي سيكون من خلاله شخصاً جديداً ويعيش حياة أخرى بريئة، ليس ابنه بل ابن أبو العلا الفقير المحروم غريمه في الذكورة. لم يفهم عِتمانُ كيف يتواءم مع تعقيد الجمال هذا، ولم يستطع إلا أن يطلق رصاصةً على ذلك الشيء الغامض الذي لم يره على أي نحو من الوضوح، حتى يمكنه أن يمسكه ويتغلب عليه. أطلق عتمان رصاصةً على الجمال الغامض المحيط به من كل جانب وهو محروم منه أبداً. انتصر الجمال إذن، من خلال فاطمة، على السلطة. وعلت فاطمة فوق أبو العلا المنكسر الخانع الغائب النائم عن ما لديه من حظ، وعلى عتمان المغرور بالقوة العاجز عن التمتع بالجمال. وانتصرت على القرية كلها، بل العالم كله ونهضت واقفة حاملة ابنها من أبو العلا والعمدة معاً، العشيق والزوج معاً، والحب والسلطة معاً، لتمنح الناس مما تملكه وتعيد الحقوق إلى أصحابها. وقفت كإيزيس التي جمعت أشلاء زوجها وأنجبت ابنها حورس منه بينما سِت الشيطان في أعماق هاديس يجتر حيرته ويتساءل مع عِتمان: ما هو الوجود الحقيقي؟ ويجيب: هو منحةٌ من الجمال، اللاهي الشفيف الذي لا يطاوله أحد، إلا إذا أراد هو. تقول زوجة الأراجوز بعد انتصارهما على الخفير/ عبدالمنعم إبراهيم، رمز السلطة والقوة بصوت قوي منتصر: الحب مش بالعافية. ويبدو أن حكمها ينطبق كذلك على قمة السلطة السياسية.