لم يرغب الشاعر الأميركي الكبير والت ويتمان قط في نفض الغبار عن أولى كتاباته الأدبية التي وصفها ب «القطع الصبيانية والخام». وعلى رغم كل المحاولات، أصرّ على إبقائها مخفية تحت أسماء مستعارة «لتسقط في غياهب النسيان سريعاً»، على حدّ قوله. وعندما حثته دار للنشر على إعادة جمعها من الصحف ونشرها، كان جوابه واضحاً حينها: «على الأرجح أنني سأطلق النار على الشخص الذي يفكر في ذلك». زاكري توربين، قد يكون هذا الشخص، هو «المهووس» إلى حد كبير بكتابات ويتمان على اختلافها. لم يفكر فقط، بل فعلها. الشاب الثلاثيني، خريج جامعة هيوستن الأميركية، لم يتمالك عن البحث لأشهر طويلة عن رواية سرية للشاعر الكبير، مع أنه لا يعرف عنها سوى أسماء بعض أبطالها. كان توربين وجد قصاصةً بخط ويتمان فيها رؤوس أقلام وأسماء لرواية نشرت في إحدى صحف نيويورك في القرن التاسع عشر. غاص في مكتبة الكونغرس، مدققاً في أرشيف صحف نيويورك، بحث مطولاً إلى أن عثر عليها وقام بنشرها إلكترونياً لتكون بمتناول الجميع. خالف توربين، الفخور بأنه اكتشف كنزاً أدبياً بقي مدفوناً لأكثر من 165 عاماً، رغبة ويتمان، لكنه يعتقد أنه قام بالخيار الصحيح، ليتعرف العالم أكثر إلى تطور كتابات ويتمان؛ أحد أهم شعراء الولاياتالمتحدة وأكثرهم تأثيراً. وهو يؤكد أنه لم يكن ليحتمل فكرة أن يحتفظ برواية لقيمة أدبية بحجم والت ويتمان من دون اطلاع العالم كله عليها. تتألف رواية «حياة جاك أنغل ومغامراته» من 36 ألف كلمة، كانت نشرت عام 1852 في إحدى صحف نيويورك على ست حلقات. كتبها ويتمان قبل ثلاث سنوات فقط من إصداره قصيدته الملحمية «أوراق العشب» التي تحولت إلى أيقونة في الشعر الأميركي، وحققت له شهرة عالمية بعد ترجمتها إلى لغات عدة، منها العربية واحدثها ترجة الشاعر المصري رفعت سلام. وبالفعل، لمس النقاد خيوطاً تربط بين هذه الرواية السرية التي كُشف النقاب عنها، وبين القصيدة الشهيرة، واعتبر كثيرون أن الرواية التي لم تحقق دوياً أدبياً في حينه، ولا حتى حين جرى نشرها أخيراً، هي نافذة على الخطوات الإبداعية الأولى لويتمان، وتحوله من صحافي واقعي إلى شاعر فلسفي. تشبه الرواية إلى حد كبير كتابات تشارلز ديكنز، بحيث تعتمد أسلوب الغموض والإثارة. هي قصة كلاسيكية من قصص نيويورك في ذلك الوقت، تتحدث عن حياة سكان المدن ومغامراتهم، وتتمحور حول شاب يتيم فقير يصيبه ثراء في ما بعد، ويحاول مساعدة فتاة يتيمة في الحصول على ميراثها من محاميها المحتال. ليس في الرواية ما يلفت سوى أن كاتبها هو ويتمان، الشاعر الفذ الذي ترك خلفه دواوين شعرية بارزة. لذلك، أثارت الرواية نقاشات كثيرة حول تطور أسلوب ويتمان الأدبي وتنقله بين أنماط أدبية مختلفة قبل أن يقرر البقاء في عالم الشعر. إضافة إلى تنقحيه الدائم لكتاباته، عرف عن ويتمان أنه «قابل للتطور»، بمعنى أنه لا يتمسك بالأفكار والمواقف بعناد عبثي، بل يترك أبواب فكره مفتوحة أمام أفكار جديدة قد تقنعه. والحال أن ذلك لا يظهر فقط في كتاباته وتنقلاته بين النثر والشعر، بل أيضاً في مواقفه السياسية التي كان يجاهر فيها، بكونه صحافياً مهتماً في الشأن العام وقضايا المجتمع. في بداياته، كان ويتمان يرفض فكرة تحرير الرقيق، لكنه سرعان ما تبنى موقفاً معاكساً وأصبح من أبرز دعاة تحريرهم. حتى أنه لُقب بشاعر الديمقراطية والتسامح وعدم التفرقة بين الأديان. وخلال الحرب الأهلية، بين الحكومة الفيدرالية و الولايات الجنوبية التي استمرت في تجارة الرقّ، تطوع للعمل كممرض في مستشفى، يعالج جرحى الطرفين، وترجم تجربته مع الحرب في ديوان «مذكرات حرب»، الذي أظهر انسانيته وتعاطفه مع أخيه الانسان. قبل أن يختار الشعر، تنقل ويتمان بين التدريس والصحافة والوظائف الحكومية، ومارس شغفه الأول في إصدار الصحف والمجلات المحلية أو المشاركة فيها. وفي وقت لاحق، نشر قصصاً كثيرة على حلقات في الصحف، لكنّ ذلك لم يمنعه من صقل موهبته الشعرية مع مرور الوقت، فتحول من شاعر تقليدي، يكتب الشعر المقفى والوعظي إلى شاعر يكتب بطريقة غير مسبوقة، حيث تخلّى عن الوزن والقافية، واختار سطوراً طويلة ضمن قصائده، كما هو الحال في قصيدة «أغنية نفسي» التي حققت نقلة نوعية في الشعر الأميركي، ليس فقط لجهة الأسلوب النثري المعتمد بل أيضاً لجهة تدفق الخيالات والثيمات الجديدة المطروحة والابتعاد من أسلوب الوعظ. أصدر ويتمان كتابه الأشهر «أوراق العشب» وحقق شهرة واسعة. وظهر الكتاب في صورته الأولى عام 1855، لكنّ ويتمان دأب على تعديله والتغيير في قصائده، لتظهر صورته النهائية في العام 1891، أي قبل عام واحد فقط من رحيله. وقد جابه الديوان حملات عدة، من جهات سياسية نافذة، ووصف بالأدب الاباحي، بل طُلب من ويتمان إجراء تعديلات في قصائد عدة فيه، منها «امرأة تنتظرني» و «الجسد المثير»، لكنه رفض بحزم فتخلى عنه ناشره، إلا أنه تمكن من العثور على ناشر آخر وحققت الطبعات التالية مبيعات خيالية بسبب الإقبال على الكتاب المرفوض سياسياً.