إن مجرد إيجاد اتحاد لعملات مجموعة من الدول، أياً كانت الأسباب التي دعت إلى إيجاد الاتحاد النقدي، ليس بلسماً يحلّ جميع المشكلات الاقتصادية. ولنأخذ الاتحاد الأوروبي كمثال، فليس جميع أعضائه أعضاء في الاتحاد النقدي. يضم الاتحاد الاقتصادي الأوروبي 27 دولة، لم يتخلَّ منها عن سيادته النقدية وحقه في استخدام عملته الوطنية سوى 16 دولة من 27، كان بإمكان كل منها الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي النقدي، أو ما يسمى «منطقة اليورو»، ومع ذلك اختارت 11 دولة، بل وأصرّت، على استخدام عملاتها الوطنية. ما سبب رفض دول مثل بريطانيا والدانمرك والسويد استخدام «اليورو»، مع أن كلاًّ منها عضو فاعل في الاتحاد الأوروبي؟ لكل دولة أسبابها الخاصة، غير أن المشترَك بينها أن كلاًّ منها تود أن تكون صاحبة الهيمنة في اتخاذ السياسة المالية والنقدية الخاصة بظروفها الاقتصادية الوطنية. ليُمعِن المتابع النظر إلى ما يحدث حالياً، ومنذ بضعة أشهر، في دولتين من دول الاتحاد النقدي الأوروبي هما ألمانيا واليونان: فألمانيا دولة ترتفع كفاءتها الاقتصادية، وهذا يعني ارتفاع إنتاجية أفرادها، وذلك بدوره يؤدي إلى ارتفاع متوسط مستوى معيشة مواطنيها مقارنة بغيرهم من أعضاء دول اتحاد العملات، أي دول اليورو. ولذلك تستطيع ألمانيا المنافسة، ليس في المحيط الأوروبي فحسب، بل على مستوى أسواق المعمورة، حتى وإن كانت عملتها اليورو. لو أن ألمانيا أبقت على عملتها الوطنية القديمة (المارك)، لوصلت قيمة المارك إلى مستويات عالية، بما يكفي لخفض صادرات ألمانيا وزيادة وارداتها بسبب ارتفاع أسعار صادراتها بالعملات الأجنبية وانخفاض أسعار وارداتها بعملتها الوطنية. أما حالياً، فهي تستفيد من ضعف منافسة بعض دول الاتحاد النقدي، كاليونان والبرتغال وقبرص وإسبانيا، لأن ضعف هذه الدول وغيرها من دول عملة اليورو نسبة إلى ألمانيا، يمنع ارتفاع قيمة اليورو نسبة إلى بقية العملات العالمية، كالين والدولار و «رنمنبي» الصيني (Renminbi)، وبذلك تتحاشى ألمانيا ارتفاع قيمة عملتها. صحيح أن ارتفاع كفاءة ألمانيا أيضاً يدعم اليورو، غير أن وجود دول أقل كفاءة إنتاجياً من ألمانيا يجعل ارتفاع اليورو أقل بكثير من ارتفاع عملة تكون خاصة بألمانيا، كالمارك الذي لن يتعرض لمضبطات من دول أخرى أقل إنتاجية من ألمانيا. أي أن ألمانيا تستفيد من ارتفاع كفاءتها الاقتصادية من دون أن تؤدي هذه الكفاءة مباشرة وبالنسبة نفسها إلى ارتفاع قيمة اليورو. مرة أخرى، إن ارتفاع قيمة عملة أي دولة يحتل فيها قطاع التصدير نسبة كبيرة من مجمل ناتجها العام يضرُّها، لأنه يقلل من صادراتها ويزيد استهلاكها عما تستورد من الآخرين. وعكس ما حدث ويحدث في ألمانيا، حدث ويستمر حدوثه في دول أخرى أعضاء في منطقة اليورو، لسببين رئيسيين: الأول منهما، أن هذه الدول عانت من درجة أكبر من التراجع الاقتصادي الذي أشعل نيرانه لصوص نيويورك، لأنها أقل كفاءة إنتاجية من ألمانيا، وثانيهما أن هذه الدول لا تستطيع تغيير مستويات السيولة في داخلها، لأن الذي يملك القرارات في كل ما يمكن أن يؤثر في مستويات السيولة هو البنك المركزي الأوروبي في فرانكفورت، وليس بنك اليونان أو إيطاليا أو إسبانيا المركزي. وكل ما تقدَّمَ لا ينفي وجود مزايا كثيرة لاتحاد العملات، فمن المزايا: زيادة التبادل التجاري بين الدول التي تستخدم العملة نفسها، وإعطاء ثقة أكبر للمستثمرين في دول يعرف المستثمر أن سلامة عملتها في أيدي أكثر موثوقية مما ستكون عليه لو كانت في أيدي حكومات وطنية أقل قدرة على تحمل الضغوط السياسية الداخلية، وغيرها وغيرها، ليس هذا مكان الخوض فيها بتوسع وتعمق. وملخص الموضوع، أن اتحاد العملات يفيد الجميع في ظروف النمو والاستقرار، ويكبِّل أيدي سلطات حكومات الحلقات الأضعف في المنظومة الاقتصادية في أوقات التراجع والأزمات. والله من وراء القصد. * أكاديمي سعودي