ربما لا توجد علاقة أعقد من العلاقة بين الأصولية والعلماء المسلمين في سورية وعلاقة هذين بالسُّلطات السياسية، خصوصاً سلطة الأسدين، الأب والابن. إنها علاقة، كانت وما زالت بالفعل، محفوفة بشبكة هائلة من العقد السياسية بين هذه الأطراف الثلاثة، وأحياناً مشبوكة بصراع الكل على معنى الإسلام، وأحياناً أخرى بفضاء من العقد المنهجية تصل إلى درجة العجز في تصنيفهم أو في وضع حدود بينهم. والحال، أننا بالفعل أمام ثلاثة فضاءات، كلُّ فضاء منها قابل لإنتاج الإثنين الآخرين، أو ربما، في حالات محددة، تجتمع ثلاثة فضاءات في واحد (من يُطلق عليه «مفتي البراميل»، أي أحمد حسون، مثال على ذلك: إنه يمثل سلطة سياسية ودينية، وعالماً إسلامياً وأصولياً). وبغض النظر عن الخوض في هذا، فإنّ ما يهمنا في هذه العجالة هو تلك العلاقة الواضحة بين أطراف واضحين: هنا في سياقنا «الإخوان المسلمين»، والعلماء المسلمين المرتبطين ب والمنفصلين عن السلطة الحاكمة أو المناهضين لها، من جهة، وتأثير هذا على الوضع السوري الراهن، من جهة أخرى. هل أنّ «السياق العلمائي» في سورية قابل بالفعل لأنْ ينتج أصولية؟ إذا كان الجواب بالإيجاب، لماذا إذاً كانت العلاقة بينهما تتسم بالتوتر (نصرف النظر قليلاً عن المصالح السياسية هنا لكل من الطرفين)؟ الجواب يحمل في طياته بعداً تاريخياً يعود في التاريخ الإسلامي إلى بداية تأسيس ما اصطلح عليه ب «المدرسة» (المدرسة النظامية في بغداد مثلاً) في سياق الحروب الصليبية. فحينها وبعدها سادت سلطة ما اصطلح عليه ب «عصر العلماء»، وذلك حينما بدأت تتهاوى سلطة الخلافة العباسية وسيطرة البويهيين عليها قبل ذلك (بين 945-1055) ومن تلاهم بعدها. من هذا الفضاء ولدت لاحقاً شخصيات أخذت موقفاً حاداً مجبولاً بالسلفية الطهورية، كأمثال ابن تيمية (1263-1328) والشخصية الألين منه ابن قيم الجوزية (1292-1349) وذلك رداً على قرنين متتاليين من التبعثر (ما يطلق عليه مثلاً ب «ملوك الطوائف») والهزائم وسيطرة سلالات غير عربية على البلاد الإسلامية. يصف باحثون غربيون هذه الفترة، بما خلفته من آثار على التاريخ الإسلامي، بأنها فترة الصعود الأصولي الأول الذي ولد من مدرسة العلماء (هنا يُذْكر خطاب الجهاد بكونه أخذ بعداً آخر مع هذا السياق العلمائي)، وتحديداً من البيئة الدمشقية والعراقية التي كانت تختلف كلياً عن البيئة المصرية حينها. ظهور «المدرسة» يعني في شكل من الأشكال مأسسةً للفكر الديني الإسلامي، من جهة، وشرعنة للسلطة السياسية التي تحميها من جهة أخرى (خذ مثلاً كتاب «سير الملوك أو سياست نامه» لنظام الملك الطوسي ت 1092). لكن مثل هذه المأسسة، على أهميتها، لم تسمح بظهور شكلٍ تراتبي هرمي كنسي، لأسباب لا يمكن الخوض فيها هنا. ما يهمنا في هذا السياق هو أنّ هذه المأسسة، التي استمرت في هيكليتها في العصر العثماني، عادت للظهور في شكل ممنهج أكثر في العصر الحديث تحت تأثير الحداثة الغربية، وسيطرة سُلطات عسكرية عليها لا ينتمون إليها، لا من قريب ولا من بعيد. لكن أيضاً مرة أخرى، فقد ولدت حركة الإخوان المسلمين السورية من داخل هذا الفضاء المدرسي الديني (مصطفى السباعي ت 1964، وهو الملقب حينها ب «ابن تيمية الصغير»!)، وليس من المفارقة أنّ هذا الفكر الإخواني بقيادة السباعي هو أيضاً من سيؤسس كلية الشريعة في دمشق 1955 وليصبح هو عميداً لها. والحال، أنّ مثل هذا السياق العلمائي المنتج للأصولية قد ولد أيضاً ضمن سياق خراب جديد قد ألمّ بالعرب. صورة ارتباط الفكر «الإخواني» بالعلمائي في سورية صورة تخلتف عن تلك الصورة المتوترة في العلاقة بين الأزهر و «الإخوان» في مصر. الأراضي الفكرية والسلوكية المشتركة بين الطرفين السوريين هائلة جداً، ومن الصعب وضع حد فاصل بينهما. من هنا يمكن تفسير لماذا معظم الأجيال الأولى من «الإخوان» كانوا من العلماء المسلمين (خذ أيضاً مثلاً محمد علي الصابوني، رئيس رابطة العلماء السوريين)، ولماذا معظم العلماء السوريين (الحلبيين والدمشقيين بخاصة) قد دعموا «الإخوان» في معركة الدستور والإسلام بعد الاستقلال 1945. أما عن الانشقاقات اللاحقة بين هذين الخطين فإنها معزوة لدخول طرف ثالث بينهما: أي سلطة «البعث». والحال، أنه لو دققنا في إعادة تشكيل المدرسة الدينية التي سيطرت عليها توتاليتارية عساكر البعث، سنستنتج أنّ مثل هذا الظهور الجديد (المؤسسة الدينية عموماً) قد سحب البساط من تحت سلطة العلماء. بالطبع، هذا لم يكن ليشفع للسلطة البعثية أنْ لا تْواجه بأجيال جديدة من الأصوليين. وهذا ما يمكن لحظه اليوم بشدة. وفي أي حال، ما يمكن التشديد عليه في هذا السياق، أنه إذا كانت فترة ما بعد الاستقلال إلى حين صعود حزب البعث إلى السلطة 1963 فترة تتسم، من حيث العلاقة بين المؤسسة الدينية والسلطوية، بكونها مأسسة دينية للشؤون السماوية والأوقاف، فإنّ الفترة التي تلت اغتصاب «البعث» السلطة هي فترة توتر بين العلماء الدمشقين وبين رموز «البعث» الذي استطال في بطشه: اعتقاله كبار العلماء السوريين حينها (مثلاً الشيخ عبدالفتاح أبو غدة والشيخ حسن حبنكة الميداني) والكثير من الجرائم التي ارتكبها في حمص وحماة وغيرها من المناطق. النتيجة لا شك كانت كارثية: أولاً، اتجاه «الإخوان» نحو السلاح، خصوصاً الحمويين والحلبيين (الفرع الشمالي)، وثانياً، الانشقاق داخل الأرضية «الإخوانية»-العلمائية، من جهة وظهور تيارات جديدة «متأخونة» (لكن ليست «إخوانية» تنظيمياً)، من جهة ثانية، وهي من سيحمل راية الفكر «الإخواني» في ظل «بعث» الأسدين، الأب والإبن. لنقلها بكلمات أخرى: حافظ الأسد لا شك دمر البنية «الإخوانية»، لكن كتنظيم، كحركة، إلا أنّه أعاد خلق الفكر «الإخواني» بما يتناسب واللاشرعية السياسية له (بالطبع، القضاء على التنظيمات الدينية «المتأخونة» امتد ليطاول حتى القيادات المشيخية العلوية، التي لا يصح وصفها ب «العلمائية» تماماً كما هي الحال العلمائي السني. لم يكن الأسد في هذه السلوكيات التوتاليتارية يعبر عن رعبه من شيء اسمه «تنظيم»، فحسب، بل أيضاً يحاول دمج العلويين بالفضاء السني المدني). استمر الفكر «الإخواني» في ظل الأسد الأب بالترعرع والنمو بأثواب جديدة. لنتأمل قليلاً في الفضاء الفكري الدمشقي ل «القبيسيات» ولنتأمل بفكرية مؤسسة كفتارو العلمائية، بمحمد سعيد رمضان البوطي، الأصولي المحافظ «المتأخون» حتى أكثر من «الإخوان» (وهو الرجل الأول في سورية، «عماد البعث المتدين» الذي إليه يعود الفضل في خلق هذه البيئة، والذي ترك بصمة في كل بيت سوري. وهو يستحق الدرس لوحده)، لنتأمل قليلاً بالفكرية «الإخوانية» لمحمد حبش (حينما كان ركناً للسلطة وبوقاً لها، على طريقته طبعاً. حينها أطلق عليه لقب «شيخ البرلمان السوري» حينما كان عضواً فيه)، وغير ذلك الكثير من الأمثلة التي تربت في بيئة «البعث» الأسدية. كان الطرف العلمائي الدمشقي، بعد مجازر حماة وحلب، هو الطرف المستفيد الأكبر من القضاء على «الإخوان»، كتنظيم. لقد أخليت له الساحة. من هذه الفضاء أعيد خلق «الأخونة» فكرياً، لكن المقادة من حافظ الأسد، والتي عاد اليوم جزء كبير منها الى حضن التنظيم «الإخواني» (نأخذ في الاعتبار هنا الانشقاقات داخل هذا الفضاء العلمائي مع الأسد وضده). لم يكن يصعب على حافظ الأسد أمام المجتمع السوري، لكي يستجلب لنفسه عفواً «إسلامياً سنياً» تغطيةً لجرائم زمرته الحاكمة، المضي بخيار إعادة «تسنين» السنّة السوريين، «تسنين بعثي» ربما: (التسنين من السنة - مثلاً الاحتفالات الدينية المقادة «بعثياً» التي فاضت على ما أتى به التراث الإسلامي، «معاهد الأسد» لتحفيظ القرآن، السيولة في بناء المساجد، إنتاج طبقة رجال دين من العلماء المسلمين الموالين يشكلون متنفسات للمجتمع السنّي السوري تكون بمثابة بدائل عن «الأخونة» التنظيمية...الخ). مثل هذه السياسات والمناخات الجديدة أسفرت عن نتائج شديدة الخطورة على المجتمع السوري، من أهمها ربما إعادة «تأصيل» المجتمع العلمائي السوري ب «أصولية»، ربما تعتبر أصولية البوطي خير مثال عليها، وإعادة خلق طبقة من العلماء المسلمين من مهمتها «شرعنة اللامشرعن» وأنْ تقف واسطة بين هذا اللامشرعن وبين أطياف المجتمع السوري. لا نصدق على الإطلاق أنّ «البعث» القومي قد قضى على «الأخونة» الأصولية: إنه بالأصل جزء من مناخها الثقافي المستطيل في التاريخ. اليوم لبست إعادة خلق الأصولية في المجتمع السوري على يد بشار الأسد أثواباً أصولية جديدة، هذه المرة ملونة بسواد فارس الأصولية. جيل جديد من العمامات السوداء يحيط الآن بدمشق (من المبكر القول أنها ستكون بديلاً من العمامات البيضاء). لكن، هل ستشفع هذه الأثواب الفارسية، هذه العمامات السوداء الأصولية من أْنْ لا تنقلب عليه، كما انقلبت عليه أثواب أخرى؟ لا يُتوقع ذلك.