لست طويل القامة وممشوق القوام مثل ماجد عبدالله، في أيام عز وشهرة «أبوعبدالله... الرمح الملتهب»، ولا أدنو في الوسامة بقدر مسافة ميل من «بوسنيدا»، الفنان راشد الماجد. أما إذا افترش وجه الفنان جواد العلي شاشة التلفاز، فآه، ثم آه. وبإرادة ذاتية تدب فيهما على الفور، تمتد يداي كلتاهما، رغم أنفي، لتطفئا التلفاز على رغم صيحات الاحتجاج والشجب التي تنطلق متزامنة ومتزاحمة من أفواه شقيقاتي. لمّا تكرر امتداد يديّ إلى التلفاز، وتكررت احتجاجات شقيقاتي، اهتدين إلى فكرة الانتقال إلى إحدى القنوات الإخبارية كلما سمعنّ وقع خطواتي أو صوتي وأنا متجه إلى الصالة. فيقتربنّ من بعضهنّ إلى أن تتلامس رؤوسهن ليتهامسنّ همساً مصحوباً بضحكات خفيضة. لم أتبيّن مرة واحدة موضوع همسهن، لكنني لا استبعد أنهنّ يتحدثنّ عن غيرتي من جواد العلي وغيره من الفنانين الوسماء بسبب ما يعتبرنّه دمامة فيّ. الحقيقة أنني لست دميماً، ولكنني قاب شبرين أو أدنى من الدمامة وفق تعريفي الخاص للدمامة. أما طولي فهو معقول جداً من وجهة نظري، لكن لا أحد يكترث لوجهة نظري، كما لا أستطيع إقناع الآخرين بأنني لست قصيراً كما يعتقدون. بعضهم يصرّح بذلك أمامي دون حرج، وحتى دون التفكير في أنهم يجرحون مشاعري، والبعض الآخر يتحدث عن ذلك خلف ظهري، عندما لا أكون موجوداً في المكان نفسه. ما يضاعف حدة تألمي من قصر قامتي وقربي من الدمامة هو أن أبي طويل وممشوق القوام ويملك من الوسامة ما يرضيني القليل القليل جداً منها، وأعمامي الثلاثة، الذين يوقعون بي دائماً ألماً مبرّحاً بتذكيري بقصر قامتي ودمامتي، وسيمون وطوال القامة مثل شقيقهم الأكبر أبي، الذي لو لم أكن ابنه ويشفق علىّ لربما آلمني مثلهم. أما أخواي فكم تمنيت أنهم ليسا أخويّ، وكم تمنيت أنني أشبههما تماماً، أو يشبهانني. كان أبي كريماً معهما بتوريثهما جينات الوسامة وطول القامة، بقدر ما كان بخيلاً معي للغاية. الوحيد الذي كان مبتهجاً بدمامتي وبقصر قامتي هو جدي قبل وفاته، والسبب هو أنه كان السبب في حدوثهما، فمنه ورثت مصيبة قصر القامة وكارثة الدمامة كما يرى الناس. أقول الحقيقة بدون مواربة، لقد كنت مثله فرحاً بالشبه بيننا في سنوات طفولتي المبكرة، فكانت رقبتي تنمط وتطول، وتتهلل أسارير وجهي سروراً عندما يشير أحدهم إلى تلك العلاقة الفريدة بيني وبين جدي، إذ كنت الوحيد بين إخوتي الذي تسربت إليه جينات جدنا في غفلة من جينات أبي حاملة الوسامة وطول القامة. تكرم جدي بتوريثي هاتين الصفتين أدى به إلى أن يكون كريماً عليّ في أشياء أخرى. فدائماً ما كانت جيوبه عامرة بأنواع مختلفة من الحلويات يمنحني إياها بعيداً عن أنظار أخويّ، ويهبني ظهره جداراً احتمي خلفه من ثورات غضب أبي، وهي ليست بالقليلة لأن مشاغباتي لم تكن قليلة. لمّا كبرت صرت أكره نفسي لأني أحببت صلة الشبه بيني وجدي، الحب الذي عمّقته الحلويات التي كان يدسها في جيوبي، واحتماءاتي خلف ظهره. وها أنا أعلن بصراحة أنني أصبحت أكرهه، وأحمله المسؤولية عن مصيبتي. ليس لي في كل هذا الكون من أبوح له بمعاناتي وبآلامي سوى أمي وابنة عمي. أمي لم تبتهج بحالتي مثل جدي، وهذا أمر متوقع ومألوف عن أي أم إلا في حالات شاذة ربما، وكأي أم يؤلمها ما يؤرق أبناءها وبناتها، ولهذا كان صدرها ولا يزال ملاذاً ألوذ به من وخزات الألم الذي لا يبارحني إلا عندما أرتمي عليه، وقد احتشد صدري بالنشيج وعيوني بالدموع. «لا تدع الحزن يقتلك»، كانت تقول، دائماً، ودموعي تصنع بقعاً من الرطوبة على صدر فستانها. «الرجل لا يعيبه غير جيبه. وأنت ستكبر وتغدو رجلاً ناجحاً، في مركز مرموق، وجيوبك كلها مملوءة بالنقود. ولن يهتم الناس بأي شيء آخر». أمي لا تزال تردد هذا الكلام على رغم أنني كبرت وتعلمت وتخرجت من الجامعة وجيوبي ما برحت خالية من النقود، لأنني لم أجد عملاً، فالبطالة تبسط أذرعها الأخطبوطية في كل مكان. أما ابنة عمي فقد حفظت كلام أمي حرفياً وصارت تصبه في مسمعي منذ طفولتنا لتواسيني وتخفف الوجع الذي يهاجمني في القلب والصدر والخاصرة. في طفولتنا كانت تقول لي ذلك الكلام وجهاً لوجه، أما بعد أن افترقنا لمّا نهد صدرها وتغيرت تفاصيل جسدها، أصبح التلفون وسيطاً بيننا قبل أن تشاركه الانترنت في الوساطة. ابنة عمي تحبني كابن عم لا يمكنها التخلص من علاقتها الدموية به، لكنني لا أتصور أنها ستصطفيني في يوم من الأيام حبيباً يتحول في المستقبل إلى زوج وصديق وأب لأطفالها. إن مواساتها لي نابعة من الشعور بالرأفة والشفقة عليّ، وليس من الشعور بالحب. هي لا تفكر في الزواج بي. هذا ما استشفه من ترديدها: «الزواج قسمة ونصيب،» كلما اسألها عمّا إذا كانت ستقبل الزواج بي عندما أتقدم لطلب يدها بعد أن أجد وظيفة واستأجر شقة صغيرة نعيش فيها. «قسمة ونصيب،» تقول ابنة عمي دائماً. بيد أن القسمة والنصيب لن يكونا لي. سيكونان لشاب يمتلك ولو القليل من وسامة وجمال نجوم السينما والغناء والرياضة الذين تزين صورهم جدران غرفتها. أنا لم أدخل غرفتها منذ أن أصبحت لها غرفة خاصة بها، لكن أعرف محتوياتها من توصيفاتها التي تهربها عبر الهاتف أو الانترنت. في هدأة كل ليلة، وأنا مطوق بشعوري بالوحدة وبتيقني الموجع من أنها لن ترضى أن تكون نصيبي، أتخيل انسلاخ أحد النجوم من إطار صورته على الجدار لكي يتجاذب معها أطراف الحديث على حافة سريرها، فأحاول جاهداً أن أكبح جماح خيالي حتى لا يتعدى الأمر الحديث بينهما على حافة السرير الذي لم أعد أجرؤ حتى على الحلم بالجلوس على حافته. في إحدى الليالي، يكون المنسلخ عن الجدار ليوناردو دي كابريو، وفي ليلة أخرى، توم كروز أو براد بيت، وفي الليالي التالية انطونيو بانديراس، أو ول سميث، أو جون كلوني، أو عمرو دياب، أو عاصي الحلاني، أو ياسر القحطاني، أو عماد الحوسني، إلى أن تنتهي القائمة، ثم يبدأ انسلاخ الصور من جديد. وأنا لا استطيع الانسلاخ من حزني العميق المستمر النابع من حقيقة أنني لست وسيماً وممشوق القوام - الحقيقة كما تنطق بها عيون الآخرين وألسنتهم بجهرها وهمسها وبتصريحاتها وتلميحاتها، وسقسقة ضحكات شقيقاتي الخفيضة خلف ظهري. في بعض الأحيان، ينتابني الحنين بقوة إلى أيام جدي، فأتمنى لو أنه لم يمت!