بعد مرور خمسين عاماً على بداية مشواره مع الكتابة الأدبية يشعر الكاتب المصري جمال الغيطاني بالرضا إزاء ما حققه، معتبراً أنه «أقرب إلى الإعجاز»، في ضوء الظروف غير المواتية التي ظل يقاومها طوال ذلك المشوار، على حد قوله. ويؤكد صاحب «الزيني بركات» في هذا الحوار أنه لا دوافع شخصية وراء «المصالحة» التي أجريت أخيراً بينه وبين وزير الثقافة المصري فاروق حسني، مشيراً إلى أن خصومتهما لم تكن شخصية وإنما تأسست على ظروف موضوعية. ودافع الغيطاني عن موقفه في شأن الحفلة التي أقامتها دار الأوبرا المصرية الشهر الماضي للمايسترو الإسرائيلي دانيال بارينبوم، وقال: «ساعدت في تحقيق حلم اداورد سعيد، وعلينا أن نكسب الأصوات المؤيدة للقضية الفلسطينية بمنطق إنساني». ودعا الغيطاني المثقفين العرب إلى التفكير في «كسر الحاجز النفسي» والسفر إلى رام الله للمشاركة في احتفالية القدس عاصمة للثقافة العربية. وهنا نص الحوار الذي جرى في مكتبه في صحيفة «أخبار الأدب» حيث علّقت على الجدران صور كثيرة للغيطاني مع كتّاب من العالم يتقدمهم نجيب محفوظ، إضافة إلى «بورتريهات» لكتاب مثل تشيكوف وديستوفسكي وهيرمان ملفيل وآخرين يعتبرهم الغيطاني «بناة العالم العظام». نريد أولاً أن نستعيد معك الأجواء التي رافقت قرارك باحتراف الكتابة؟ - لم أقرر احتراف الكتابة وإنما تتبعت الغريزة التي قادتني إلى هذا المصير، ويمكنك القول إن الكتابة هي التي أغوتني، فأنا ابن أسرة بسيطة لم يكن بين أفرادها من يعنى بهذا النشاط الإبداعي، ووالدي ذاته كان همه الوحيد هو مجرد أن استكمل تعليمي، لكنني عرفت القراءة مبكراً وعرفت معها متعة الخروج من العالم الضيق، وبدأت الكتابة في طور الانتقال إلى مرحلة البلوغ، وجاء أول نص مكتمل لي عام 1959، وعندما أتأمل معك المشوار الذي قطعته طوال خمسين عاماً أتذكر صورة الحارة التي خرجت منها وأعتبر أن ما تحقق لي هو أمر أقرب إلى الإعجاز، فمنذ أن بدأت أخذت نفسي بالصرامة وحتى الآن ينتابني شعور بالدهشة كأن عمري قد سُرق مني، وبالتالي أصبح وعيي بما تبقى أكثر حدة بكثير، لأن الرصيد محدود على رغم ما تحقق. والأمر الثاني الذي يلفتني هو أنني راض بنسبة ما عما حققت من نجاح، وبخاصة في ما يتعلق بتحقيق هدف رئيس بدأت به وهو بلوغ الخصوصية الإبداعية، وهذا الأمر تحقق بامتياز، لكن نظراً إلى عدم تفرغي للكتابة أشعر أنه كان بالإمكان كتابة مؤلفات أكثر، وحتى الآن عندما أقرأ عبارة «كاتب غزير الإنتاج» أشعر بمرارة لأنه كان بإمكاني أن أبدع أكثر، فأنا «عامر بالموضوعات» ولست من الكتّاب الذين يشكون من غياب الوحي. وربما كانت أمنيتي التي لم تتحقق هي تفرغي للكتابة، فحتى الآن ما زلت أمارس عملي الصحافي لكسب العيش. وما هو مصدر الرضى، هل هي الشهرة، أم الجوائز التي تدفقت أخيراً؟ - الجوائز ليست إلا نوعاً من الاعتراف، وأذكر أن الأستاذ نجيب محفوظ قال لي يوماً: «هل هناك كاتب يكتب من أجل جائزة؟». منذ البداية كان لدي مشروع وقلق إبداعي بدأ معي، فقد أردت أن أكتب ما لم اقرأ مثله، وأرجو أن تلاحظ أن هذا الهاجس سكنني وقاد خطاي ودفعني للبحث عما يحقق لي هدفي من دون مرشد أو دليل. وأذكر أنني قرأت قبل أربعين عاماً في صحيفة «الأهرام» خبراً عن كتاب «فن القصة القصيرة» لرشاد رشدي، فخرجت إلى وسط المدينة لشرائه وكانت الرحلة أقرب إلى المغامرة لكنني وجدت في الكتاب أشياء لم ارتح لها فقررت الفرار من الوصفات الجاهزة وبلورت تدريجاً رؤية خاصة تقوم على إعادة النظر في التراث الإبداعي العالمي كله، حتى أكون مجدداً وليس ناسخاً. ساعدني على ذلك كوني قارئاً نهماً تعرفت إلى مختلف مصادر المعرفة الأدبية والتاريخية في وقت مبكر وبانفتاح رسّخ لدي قناعات كثيرة في شأن الأدب. وربما اكتشفت أن نشأتي في حي الجمالية والقاهرة الفاطمية طرحت أسئلة في شأن المكان والتاريخ كان عليّ أن أبحث لها عن إجابة. وخلال رحلتي أدركت أن ذروة البلاغة المصرية كانت في العهد المملوكي خلافاً لرؤية أكاديمية تراه عصراً للانحطاط. ومع استرسالي في القراءة شعرت بقيمة نصوص الحوليات التاريخية، التي تنطق بخصوصية مصرية. فالصياغة باللغة العربية الفصحى، بينما التراكيب ذاتها بالعامية المصرية وهي مسألة فريدة لأن مؤرخاً مثل المقريزي كان يكتب من دون أن يكون لديه وقت للتدقيق والتنميط. فدوره كان أقرب إلى دور الصحافي المتابع للأحداث والمعلق عليها. وتساءلت لماذا لا أكتب بهذا الأسلوب إلى أن قادتني ظروف نكسة العام 1967 إلى إعادة اكتشاف وقراءة ابن إياس لأنه عاش تجربة شبيهة ومعه اكتشفت لغة فريدة للقص، وفي آب (أغسطس) من العام نفسه نشرت قصة «هداية أهل الورى في بعض ما جرى بالمقشرة»، لكن خصوصيتي في السرد جاءت مع «أوراق شاب عاش منذ ألف عام». وبعد سنوات من الممارسة الإبداعية التلقائية بدأت في التنظير لتجربتي ربما لأنني أنصت لمقولات ناقد مثل محمود أمين العالم الذي تحدث عن اكتشافي لما سماه «القصة / التاريخ» وكانت القضية بالنسبة الي هي تجاوز الأطر التقليدية التي جرى الترسيخ لها استجابة لطرق قص واردة من الغرب، إذ كنت راغباً في كسر هذا النموذج. ومن خلال التعمق في قراءة التراث، اكتشفت مساحة الانفتاح الموجودة في أنماط السرد العربي، والحاصل هو أنني في البداية لم أملك القدرة على كسر هذه «التابوات» بجرأة، لكن مع «الزيني بركات» كنت قد تجاوزت مسألة الخوف من الإطار وبدأت تتبع صوتي الخاص. ومع «التجليات» بلغت ذروة ثقتي في الشكل الذي ابتكرته، وهو الأمر الذي مكنني من كتابة «دفاتر التدوين» من دون أن أضع لمسألة الشكل أي اعتبار. يتجلى في كتاباتك الأخيرة الانشغال بالزمن، لماذا؟ - الوجود ذاكرة تستوعب لحظتين، ما مضى وما هو آت، والنسيان ذاكرة مضادة، ومنذ أن كتبت «شطح المدينة» ولدي هذا الانشغال، وقضية الذاكرة هي قضيتي الأولى الآن وما أركز عليه هو ذاكرتي الخاصة سعياً وراء تدوين ما جرى. وهل بفضل هذا الرهان غابت الرواية في شكلها التقليدي عن إنتاجك الجديد الذي جاء أقرب إلى التجريد في احتفائه بلحظات التأمل أكثر من أي شيء آخر؟ - ما تقوله صحيح، لكن القضية عندي هي الرغبة في تجاوز المألوف، فعندما كتبت «الزيني بركات» رآها البعض رواية صعبة، أما اليوم فهي رواية كلاسيكية يستوعبها الشباب مثلها مثل «التجليات». لا أريد أن أقول إنني لم اسع إلى منافسة زملائي من كتاب الستينات من القرن الماضي وإنما كانت عيني على نصوص الكتاب العالميين أمثال ديستوفسكي وبلزاك وغيرهما من قمم الإبداع الإنساني عملاً بقول المتنبي: «على قدر أهل العزم تأتي العزائم». فأنا شديد الانبهار مثلاً بعمل مثل «موبي ديك» لهيلمان ملفيل، أو «جسر على نهر درينا» لإيفو أندريتش، و«المحاكمة» لفرانز كافكا و«صحراء التتر» لدينو بوزاتي... وكلها نماذج سعيت الى بلوغها. وهل تعتقد أن مشاركاتك المتعددة في مؤتمرات عالمية للكتابة الى جوار كتّاب كبار بمثابة اشارة الى امكانية بلوغ الهدف الذي بدأت به؟ - بعد نشر مؤلفاتي بلغات عالمية مثل الفرنسية والانكليزية ربما شعرت بالنجاح إلى حد ما، خصوصاً وأنا أتابع ما يكتب عن أعمالي في صحف عالمية وبأقلام مرموقة. وبكل تواضع أقول إن هناك من كتب بعد صدور «التجليات» بالفرنسية أنه نص لا يقل أهمية عن «الكوميديا الإلهية» لدانتي. على رغم ذلك تؤكد أن غالبية نصوصك لم تقرأ قراءة وافية على المستوى العربي؟ - أعمالي الإبداعية قُيّمت نقدياً على مستوى جيد عربياً. لكن ما أتحدث عنه له علاقة بدوري في المجال الثقافي العام، فعندما أسير في الشوارع مع كتاب عرب أو أجانب أجد ترحيباً لافتاً من الناس العاديين، والحقيقة أن هؤلاء تابعوا ظهوري على الشاشة كمقدم برامج في السنوات الأخيرة، وبالتالي فهم يعرفون الصورة من دون قراءة النص، وهذا لا ينفي اعتزازي بالبرنامج التلفزيوني الذي قدمته عن القاهرة، فهو عندي عمل ابداعي لا يقل قيمة عن بقية كتبي لأنه يتضمن رؤيتي للقاهرة القديمة وهي رؤية انطلقت من اهتمامي بابتكار شكل روائي، فالرواية هي نقطة البدء في كل ما فعلت. ولكن إذا عدنا إلى البحث في أسباب تعطل القراءة النقدية لنصوصك الأخيرة، فماذا ستقول؟ - ما حدث لا اعتبره موقفاً شخصياً من النقاد وإنما نتيجة طبيعية لسياسات ثقافية بدأت في السبعينات أجهضت دور مصر الثقافي بتصفية المنابر والمجلات بقرار اتخذه الوزير عبدالقادر حاتم في عصر السادات، وبسبب هذا القرار حدثت عملية تجريف للعقل المصري، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى لا شك في أن إشرافي على تحرير صفحة الأدب في صحيفة «الأخبار» ثم رئاستي لتحرير «أخبار الأدب» كان لهما ثمن نتيجة النظر إليّ كطرف فاعل في الحياة الثقافية. فالروائي الذي يعمل في مهنة غير الصحافة اكثر حرية مني، كما أن حظوظه مع النقد أفضل. وهناك تقاليد تعلمتها من يحيى حقي ونجيب محفوظ خلال عملهما في وظائف ذات صلة بالحياة الثقافية. فالأول لم ينشر حرفاً واحداً عن مؤلفاته خلال توليه رئاسة تحرير مجلة «المجلة»، والثاني رفض إجازة سيناريوات عن رواياته طوال عمله في جهاز الرقابة على المصنفات الفنية، وقد سعيت إلى الاقتداء بهما في «أخبار الأدب» التي لم تنشر فيها أي دراسة عن أعمالي باستثناء دراسة واحدة كتبها كريم مروة وهو ناقد ومفكر لا يمكن التشكيك في صدقيته. وربما حجبت دراسات عني لأنها قدمت في مجلات وصحف منافسة، ويؤسفني أن هذه القيم غابت عن حياتنا حتى أنني أجد في مجلة مثل «إبداع» أكثر من دراسة عن شعر رئيس تحريرها وهي مسألة مؤسفة. إذا كان ما تقوله صحيحاً، فلماذا يشعر بعض الأدباء بأن «أخبار الأدب» طرف أصيل في معارك الحياة الأدبية وبإمكانها أن تعلي من شأن كاتب أو العكس؟ - هذا الأمر غير صحيح، فنحن مرآة أمينة للحياة الثقافية ونؤدي دورنا خارج الحسابات، وفي تجربتي أتمثل دور او تجربة الكاتب الراحل عبدالفتاح الجمل في صحيفة «المساء»، فهو قدم جيلنا، وأنا شخصياً قدمت كاتباً مثل أحمد أبو خنيجر ورشحته لمؤتمر في فرنسا لأنه كاتب موهوب وهذا دور نعتز به ولا نؤديه من باب التفضل على أحد. هل تعتقد أن موقعك في «أخبار الأدب» أضر بك؟ - على المستوى الشخصي أصابني ضرر كبير، لأن الصحيفة أدخلتني طرفاً في خصومات ومعارك كثيرة أبرزها المعركة مع السيد فاروق حسني وزير الثقافة، وهي معركة خضناها على أسس موضوعية، فقد هاجمنا جوائز الدولة التقديرية لأنها لم تصل إلى كتّاب بقامة صنع الله إبراهيم ومحمد البساطي والراحل عبدالحكيم قاسم، وأنا شخصياً تأخرت عني الجائزة نحو عشرين عاماً بسبب مواقفي من السياسة الثقافية. هل يمكن الكشف عن أسباب تسوية الخلاف أو التصالح مع الوزير فاروق حسني؟ - لا أحب تعبير «تصالح» أو «تسوية» لأن الخلاف لم يكن على أمور شخصية، فالعلاقة الشخصية لم تنقطع بيني وبين فاروق حسني يوماً، وأنا أرى أنه على المستوى الشخصي أفضل بكثير من مثقفين كبار عرفتهم، لكن الخلاف كان مؤسساً على أسباب موضوعية، فلا نزال نعارض الكثير من سياساته. وماذا تبقى في ملف الخلاف حول تلك السياسات؟ - الخلاف تمركز حول مفهوم فاروق حسني للعمل الثقافي، فهو يتحدث عن «الضوضاء الثقافية» ونحن نريد «إنتاجاً ثقافياً». هو أرادها سياسة مهرجانات ونحن واجهنا هذا التصور الزائف، وبالتالي الفجوة لا تزال قائمة بين التصورين. وفي تقديري أن سياسة الوزير أهملت الكثير من أوعية او مفردات العمل الثقافي على رغم أمور إيجابية تحققت في «المشروع القومي للترجمة» ومشروع «القراءة للجميع». ومن المؤسف أن يبحث البعض عن قصة لتفسير تحسن علاقتي بالوزير، وأنا أسال: ما الذي يمكن أن أستفيده من وزير على وشك ترك منصبه؟ أنا لم أعد بحاجة إلى فرص للسفر أو النشر ولا حتى الى جوائز محلية، وعلاقاتي الشخصية أكبر من علاقات المسؤولين في وزارة الثقافة المصرية، وبالتالي لم تتحسن علاقتي بالوزير من أجل مصلحة شخصية، على رغم أن البعض فسّر دفاعي مثلاً عن استضافة المايسترو بارنبوم في دار الأوبرا المصرية على أنه لدوافع شخصية، وأنا أقول إنني سعدت لأنني لعبت دوراً في تحقيق حلم ادوارد سعيد ووصيته التي نقلتها اليّ أرملته مريم سعيد حين سألتني عن إمكان قيام بارنبوم بالعزف في مصر، ولم تكن هناك علاقة بين حفلة بارنبوم وحملة فاروق حسني من اجل اليونسكو. لو كان الوزير يبحث عن حصان طراودة لاختراق إسرائيل لاختار استضافة الكاتب عاموس عوز وليس بارنبوم الذي يواجه مطالبات بإسقاط الجنسية الإسرائيلية عنه. لكنّ كثراً اعتبروا هذه المواقف بمثابة مراجعة لثوابت تتعلق بالتطبيع الثقافي مع إسرائيل؟ - من المؤسف أن هذه القضية الوطنية باتت مجالاً للمزايدة. فموقفي الرافض لإسرائيل ثابت، ورفض التطبيع الثقافي فكرة سياسية نبيلة، لكنّ هناك أموراً يجب أن تراجع، بحيث نحاول كسب أصوات تناهض إسرائيل من الداخل. وهناك موقف أدعو المثقفين العرب الى التفكير به، وأنا أتساءل: ليس من الضروري لنا أن نشارك في احتفالات القدس عاصمة للثقافة العربية من داخل رام الله؟ ربما كنت غير قادر نفسياً على السفر إلى هناك، لكن النقاش حول المسألة ضروري لدعم الثقافة العربية وهي على خط المواجهة. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى ليست لدي الآن الدوافع التي تمنعني من المشاركة في مؤتمرات دولية يحضرها كتّاب إسرائيليون، لأن غيابي أنا أو غيري من المثقفين عن تلك المؤتمرات سيعطيهم الفرصة لفرض رؤاهم ومواقفهم. وأنا على قناعة راسخة بأن نشاط سيدة مثل ليلى شهيد في باريس أفاد القضية الفلسطينية أكثر من كل من دافعوا عن الحق العربي في الفضائيات، فالنضال ممارسة وليس ساحة للمزايدة. بعد خمسين عاماً من الإبداع والعمل في الصحافة، هل تفكر في كتابة مذكرات؟ - ليس لدي الوقت الذي يمكّنني من ذلك، على رغم أنني أتمنى كتابة رحلتي، فقد كانت صعبة وممتعة. ماذا أعطتك الصحافة وماذا أخذت منك؟ - الصحافة أعطتني شهرة زائفة وأخذت مني وقتاً كنت أتمنى تكريسه للكتابة.