لا شك في أن الثقافة من المفاهيم المعقدة والمركبة التي من الصعوبة بمكان الإحاطة الدقيقة والكاملة بها. لكن بالإمكان الإشارة إلى أنها تشمل مختلف جوانب الحياة كالأفكار والفنون والآداب والعادات والأخلاق والسلوك واللغة والعلوم المختلفة... إلخ. وعليه، بالإمكان أيضاً، القول أنْ ليست هناك ثقافة مطلقة الكمال والقيمة، كما ليست هناك ثقافة بلا قيمة. قد لا يكون من الخطأ الحديث عن تقييم الثقافات، وعقد مقارنات بينها، وترجيح كفة إحداها على الأخرى، لكن ذلك يجب أن يبقى في إطار النسبي، لا سيما أنه ليست هناك معايير واضحة ونهائية للتقييم. الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها هي أن تطور الثقافة وتميزها وغناها يرتبط بتقدم المجتمع ككل، وأن تطور كل فرع من فروعها ليس معزولاً عن تطور الفروع الأخرى. بمعنى آخر لا يمكن فصل الثقافة عن مستويات المجتمع الأخرى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، حيث تتأثر الثقافة بها، وتؤثر فيها. فتطور التكنولوجيا والعلوم في الدول المتقدمة، كأوروبا وأميركا، عكس نفسه، بالمعنى الإيجابي، بوضوح على الكثير من المجالات الثقافية، كالفنون (السينما، المسرح، الموسيقى...إلخ) وغيرها. مع ذلك، هناك من الوقائع ما يدعو للشك بصحة الحقيقة الآنفة الذكر، والتريث في تعميمها. ففي الكثير، إن لم نقل، معظم، المجتمعات المتقدمة، كما الحال في أوروبا، تعايشت، لفترة طويلة، جنباً إلى جنب، ثقافة حقوق الإنسان والمواطنة والديموقراطية، مع ثقافة استعمار الشعوب التي تتعارض مع قيم الحرية والكرامة. وبقيت ثقافة التمييز العنصري ضد السود مهيمنة على المجتمع الأميركي المتقدم، لفترة ليست بعيدة. أما إسرائيل، التي تصنف على أنها من الدول المتقدمة، فيميزها طغيان ثقافة القتل والعدوان والتدمير، والكراهية للعرب، والتمييز العنصري ضد الفلسطينيين. بالمقابل، لا يندر أن يتميز بلد ما ينتمي للعالم الثالث، في بعض فروع الثقافة وميادينها، بل يتفوق في ذلك على الكثير من الدول المتقدمة. أفلا يبدو واضحاً تميز أدب أميركا اللاتينية مقارنة بالأدب الياباني والأميركي؟ وهل طبيعة العلاقات الاجتماعية بين الناس التي تتسم بالبرودة في بعض البلدان المتقدمة أفضل حالاً وأعلى قيمة من العلاقات الإنسانية الحميمة التي تتميز بها شعوب الشرق؟ وإلى أية درجة يصح القول إن اللغة اليابانية أكثر تطوراً من اللغة العربية؟ ينقلنا الحديث عن الثقافات وتقييمها ومقارنتها، إلى موضوع آخر، هو التنوع الثقافي والعلاقة بين الثقافات، وتأثرها ببعضها. فالبشر لا يختلفون كلية ولا يتماثلون كلية، فهناك قيم كونية مشتركة بينهم، وهناك أيضاً قيم مختلفة لا يتفقون عليها، والتنوع الثقافي نتاج اختلافهم ومجتمعاتهم وقيمهم. في هذا السياق نستطيع القول أن ليس هناك من ثقافة غير قابلة للتأثر بغيرها. وعليه، فالثقافات ليست نتاج مجتمعاتها المحلية فقط بل نتاج التفاعل مع المجتمعات والثقافات الأخرى. وأهمية التنوع تكمن في توفيره فرصة لمجتمع ما للاطلاع على الثقافات الأخرى ومقارنتها بثقافته ومعرفة نقاط قوته ونقاط ضعفه. أما التعصب لثقافة بعينها ورفض التفاعل مع ثقافات المجتمعات الأخرى ورفض التعددية الثقافية ضمن المجتمع الواحد، فإنها أولاً وقبل كل شيء تحرم المجتمعات المتبنية لها من ميزات التنوع التي أشرنا لها. * كاتب فلسطيني