الحديث عن تجارب الكتابة حديث ذو شجون، ربما لأنه يأتي بعد مسافة من الزمن تفصل بين البداية الأولى واللحظة الراهنة للكاتب. هذه الفترة الزمنية مع مرور الوقت تكون ذات بعد «نوستالجي» يظهر واضحاً للعيان عند استرجاع الحديث عن تجارب الكتابة في بواكيرها الأولى ودهشتها الأولى.. شخصياً بدأت في كتابة الرواية بعد تردد طويل، لأنني أرى الكتابة الروائية تختلف جذرياً عن كتابة القصة القصيرة، على رغم أن كتابة القصة قد تبدو سهلة للوهلة الأولى، ولكن تناولها كتابياً أصعب بكثير من بقية الأجناس الأدبية الأخرى، وقيل أن كتّاب القصة كثيرون لكن المميزين فيها قلة. وقد كتبت القصة القصيرة قبل زمن طويل من كتابتي لروايتي الأولى، وكنت أرى ولا زلت أن الكتابة الروائية تحتاج إلى نفس طويل ودربة عالية في سبر أغوار الحكاية بأحداثها وشخوصها وأزمنتها وأمكنتها. إنها لا تأتي هكذا خبط عشواء، إنما تبدأ بفكرة صغيرة وهذه الفكرة يتعاظم حجمها مع مرور الزمن حتى تصل إلى درجة الهاجس ثم الاختمار الذهني، ثم تأتي مرحلة الاحتراق، ثم انثيال كل تلك الرؤى والأفكار والأزمنة والأمكنة والشخوص التي تصطخب في الوجدان لتكون جذوة لا يخفف من لذعتها إلا البدء في عملية الكتابة. وأعتقد أن كل روائي مارس عملية الكتابة في الرواية بصدق وتفانٍ يجدها تستنزف كاتبها نفسياً وجسدياً لأقصى درجة، ولكن هذا الاحتراق لا يمكن إغفال جانب المتعة المتحققة منه، حينها تكون الكتابة ترياقاً لكل الأوجاع ولكل الانكسارات والخيبات. الكتابة علاج للنفوس القلقة المتطلعة لما وراء ظواهر الأشياء فهي تغوص عميقاً لتصل للجوهر المخفي في تلافيف الحياة. رسم الشخصيات كانت المتعة في رسم الشخصيات الروائية في أعمالي حاضرة وبقوة، وقد كنت إلى جانب ذلك أجمع ما بين الزمان والمكان، وأبحث فيهما جيداً مما يزيد في استمتاعي بكتابة العمل، لذا يجد القارئ لأعمالي وخصوصاً الأعمال ذات الصبغة التاريخية أنها تشتمل على شخصيات حقيقية وأخرى وهمية، وينسحب الكلام كذلك على الأمكنة والبحث في تاريخها الزمني والاجتماعي. باكورة أعمالي رواية «فتنة جدة» كانت من تلك الروايات التي يحضر فيها أشخاص حقيقيون بجانب شخصيات روائية لا وجود لها على أرض الواقع، وكانت تحتاج إلى بحث عن خلفيات أبطالها الذين كانوا على أرض الحدث وعن الأمكنة التي حدثت فيها. إنها تتناول التاريخ الاجتماعي من أسفل، حيث يكون سير الحياة المعتاد للمهمشين البعيدين عن كتابات المؤرخين والاهتمام بالمعاش اليومي المألوف والدارج حاضراً وبقوة. وقد كنت مستمتعاً بالبحث والتنقيب عن كل ما يخص هؤلاء الناس، ووجدت في نهاية الأمر كمّاً لا بأس به من المعلومات، وقد استخدمتها في سير أحداث الرواية وكنت مراعياً ألا يغلب الإغراق المعرفي على الخيالي حتى لا يصيب العمل الروائي الترهل وحتى يتحقق ما يسمى بالإقناع السردي. وفي معظم رواياتي كنت أستعين بالبحث والتنقيب عن معلومات شخوص روايتي، وقد ظهر هذا جليّاً في روايتي الأولى «فتنة جدة» وفي رواية «زرياب» لأنهما كانتا تتكآن على التاريخ في مجمل أحداثها. كنت ولا زلت عاشقاً للتاريخ قراءة وتأملاً، وأعشق بصفة خاصة الشخصيات التاريخية التي تركت بصمات واضحة في حياة البشر، ووجدت أن لدينا كماً كبيراً من شخصيات تاريخية تنظر من ينفض عنها غبار السنين، وتكتب في سياق بما يسمى إعادة كتابة التاريخ وتطويعه ليتناسب مع معطيات الحاضر. وهناك في طيات كتب التاريخ شخصيات قد لا يعرفها أحد ولم يسمع بها من قبل لظروف كثيرة لا مجال هنا لذكرها وشرحها. وقد شاءت الأقدار أن يكون عملي الروائي الأول تاريخي. وحالما فرغت من كتابة روايتي الأولى قررت أن أرسلها لأحد الناشرين، ولكن فكرتي عن النشر كانت محدودة فقررت الاستعانة بآراء بعض كتّاب الرواية هنا، أرسلت ثلاثة رسائل بالبريد الإلكتروني إليهم، ولم يرد علي أي أحد منهم، وكانت خيبة الأمل كبيرة إذ إن هؤلاء الروائيين قد قرأت معظم أعمالهم وتفاعلت معها ورسمت لهم صورة جميلة لا تقل عن روعة أعمالهم، لكنهم خيبوا ظني عندما بخلوا عليَّ برأي أو مشورة كنت في أمسّ الحاجة لها، وأدركت حينها أنه لا بد من التفريق بين ما يبدعه الكاتب وتتأثر به وتعيش أجواءه وشخصيته في واقع الأمر. رأي من ذوي التجارب إن الكاتب في أول عهده بالنشر يحتاج إلى المشورة والرأي من ذوي التجارب السابقة، وحين يجابه بالتجاهل يشعر بنوع من الألم والمرارة. لم أتوقف كثيراً عند هذه المشكلة، ولم يكن هناك بد من أن أخوض تجربتي لوحدي ومن دون سابق معرفة. أرسلت عملي لأحد الناشرين المعروفين الذين لهم صيت كبير في عالم النشر، فرد علي بأنه سيطلع على العمل وسيكون الرد خلال شهرين من تاريخ إرسال العمل، لكنه اتصل بي بعد ثلاثة أيام فقط وأخبرني بموافقتهم على طبع ونشر العمل، وأنهم سيرسلون العقد بالبريد للتوقيع. نشر العمل ولم يلتفت إليه أحد، ثم رشح الناشر عملي لجائزة الرواية العربية البوكر، وكان هذا أمراً ساراً ومفاجئاً لي وأحسست ربما أنني كتبت عملاً ذا قيمة مما حدا بالناشر لترشيحه مع أعمال روائية لكتّاب لهم مكانتهم في كتابة الرواية بجانب الذيوع والانتشار. ظهرت رواية «فتنة جدة» في القائمة الطويلة في الدورة الرابعة للجائزة، وكان هذا الترشيح والظهور في القائمة الطويلة في أول إطلالة لكاتب مبتدئ قد اختصر الكثير من الطريق في عالم كتابة الرواية، وربما قليلاً من الشهرة وإن كنت لا أسعى لها. ولحسن الحظ تعرض عملي لمجموعة من الكتابات النقدية لكتّاب كبار لهم صيتهم، وقد أشادت به الصحف، حينها شعرت بأنني أسير بشكل صحيح. التحدي الأكبر هو كيفية الخروج من مأزق نجاح العمل الأول. هناك الكثير من المبدعين الذين ظلوا تحت أسر العمل الأول وخصوصاً حينما يكون هذا العمل متجاوزاً في إبداعه. هذه إشكالية كبرى تواجه الكاتب في بداية مسيرته، والخروج الوحيد منها هو أن تكتب عملاً أو أعمالاً أخرى تفوق العمل الأول تميزاً وإبداعاً وتشعر قرّاءك ومتابعيك بأنك تطور نفسك وأن لديك أفكاراً جديدة وخطّاً روائياً يخصك لا تقلد فيه أحداً ممن سبقوك، حينها قد يكون من حسن حظك تجاوز هذه المعضلة لتنطلق لآفاق أرحب. كتبت عملي الثاني وهو «سنوات الحب والخطيئة»، وعرضته على ناشر آخر وقبله وطبعه ونشره ورشحه للبوكر، ولكنه لم يظهر في القوائم، هنا شعرت بالخطر خصوصاً أن القراء لم يلتفتوا لعملي الروائي الثاني، بل لبثوا يتحدثون عن العمل الأول، ولكن تم تجاوز هذا المأزق قليلاً حينما ظهر عملي الروائي الثاني في القائمة القصيرة لجائزة حائل للرواية في دورتها الثانية، ما لفت قليلاً نظر القرّاء له، ثم كتبت أعمالاً أخرى بعضها حاز على جوائز وبعضها ترشح في قوائم جوائز كبرى. ولا يفوتني هنا القول إن الجوائز ليست هي المعيار الحقيقي لقياس نجاح أي كاتب من عدمه، إنما هي تعتبر رافداً مهماً في نجاح الكاتب الذي يأخذ خطواته الأولى في عالم الكتابة. لقد كانت التجربة رائعة وممتعة في آن واحد. وأهم ما يمكن قوله أن الاستمرار في الكتابة الروائية وعدم الإصرار في استخدام قوالب سردية مستهلكة يخلق نوعاً من التراكم المفيد في الكتابة الروائية، ويجعلها أكثر تطويعاً وإلهاماً للكاتب والمبدع. (كان يفترض أن يلقي الكاتب هذه الورقة في معرض جدة للكتاب إلا أن ظروفاً شخصية حالت دون مشاركته). * روائي سعودي.