يفرض نفسه باضطراد على المتابع دور «العوامل الثابتة» أو شبه الثابتة في تحديد أوضاعنا الاجتماعية والسياسية. العامل الجغرافي البيئي والعامل الثقافي الديني بخاصة، أو الطبيعة والماضي. الأول منهما إطار للحياة يكاد يكون ثابتاً لا يتغير، وإن أمكن التحكم ببعض آثاره، والثاني ميراث من أجيالنا القديمة، لا يسعنا تغييره أيضا، وإن أمكن تغيير إدراكنا له. قبل جيل كانت العوامل الثقافية تبدو ثانوية أو انعكاساً لشيء آخر. أما العوامل الجغرافية فكانت تبدو محايدة تماماً. العوامل الإيجابية، في المقابل، كانت تتمثل في الاقتصاد والسياسة، وما يتصل بهما من دور للدولة وللإيديولوجية، ومن تعليم وتنمية ونظم قانونية. فكرة التقدم التاريخي كانت تركز كثيراً على هذه العوامل المتغيرة، ذات الزمنية القصيرة والمتوسطة. والمادية التاريخية الماركسية ذاتها جمعت بين نزعة اقتصادوية تخفض من شأن الثقافي، وبين ثقة مفرطة بالتكنولوجيا و»السيطرة على الطبيعة» تقلل من شأن البيئي، وبين نزعة إرادوية على المستوى السياسي. هذا كله يبدو في السنوات الأخيرة من الماضي. الجفاف ونقص المياه والتصحر وارتفاع الحرارة... تبدو اليوم عوامل مؤثرة مباشرة على حياة الناس، وبدرجة ما كان يمكن تخيلها قبل عقود قليلة. ولعل ما يفاقم الحضور المقلق للعامل الطبيعي تدني سوية التطور التكنولوجي في بلداننا، أو ضعف حساسيته لبيئة حارة وجافة وقليلة المياه كبيئة المنطقة العربية. بالمثل يبدو دور العامل الديني والثقافي كبيراً جداً منذ سنوات. يُعبَّر عن الأمر أحياناً بلغة الذهنيات أو العقلية، وأحياناً بلغة الطائفية والتنازع الديني والمذهبي، وأحياناً بلغة صراع الحضارات والثقافات، وهنا أيضا يتفاقم الدور المتصاعد للعامل الثقافي الديني بهشاشة التفكير النقدي القيمية والمؤسسية، وبغلبة الإيديولوجي على الثقافي والفلسفي في تفكيرنا. الموروث الذي لم نتمكن من أنسنته وتتريخه، يظهر في صورة مطلقة وسيادية. وما يجعل العاملين كثيفي الحضور اليوم هو نقطة تقاطعهما المتمثلة في التكاثر السكاني المنفلت من السيطرة في بلدان مثل سورية ومصر وغيرهما. تحول العوامل الدينية والثقافية دون بلورة سياسات عامة فعالة لضبط النسل، الأمر الذي يبدو أنه بلغ الحدود الحرجة لتحمل الإطار البيئي في بعض بلداننا، والذي يفسر احتداد إحساسنا به في السنوات الأخيرة. حين كان سكان سورية 10 ملايين مثلا، كان العامل البيئي يبدو محايدا. لكن بأكثر من ضعف هذا العدد يمسي عاملاً «منحازاً» إن جاز التعبير، يتدخل بصورة مباشرة في تحديد أوضاع البلد الاقتصادية وفرص الحياة ونوعيتها فيه. هذا ليس بالقطع العامل الوحيد اليوم في تفسير صعوبات سياسية واقتصادية واجتماعية يعاني منها السوريون مثلاً، ولا حتى الأساسي، لكنه عامل ضاغط ومتصاعد التأثير، ينذر بمحدودية ثمار أية إصلاحات سياسية واقتصادية، أو تطورات تكنولوجية، إن لم تقترن بضبط الانفجار الديموغرافي. ثم إنه قد نضيف إلى ثابتي الماضي الثقافي المتصلب والمحيط الطبيعي القاسي الدور الكبير للخارج الدولي على مسارات تطور بلداننا، وذلك بفعل تدويل المنطقة المرتبط بدوره بالعنصرين الإسرائيلي والبترولي. يتوحد تأثير عوامل «الماضي» و»الطبيعي» و»الخارجي» في كونها مؤشرات على قزامة الفاعلية الداخلية المتاحة اليوم في بلداننا، وإن تكن أيضاً عناصر تقزيم لهذه الفاعلية. بفعل التأثير المتضافر لهذه العوامل يبدو أننا نعيش اليوم في عالم يطرح تحديات بالغة القسوة، بل وجودية، يفوق خطرها التحديات السياسية التي ألفناها منذ استقلال بلداننا، وينذر بإقعاد مجتمعاتنا في أوضاع ما دون سياسية، بل ما دون تاريخية، من نوع يمثل عليه حال الصومال اليوم. وربما بتفجر حروب ونزاعات بالغة الكلفة بفعل التقاء شح الموارد مع وفرة عوامل الشحن الديني والمذهبي، ووفرة مماثلة في الأصابع الخارجية. وما يكمِّل هذه اللوحة غير البهيجة هو ما يبدو من تحول العوامل المتغيرة ذاتها إلى عوامل ثابتة وطبيعية. الدولة تتحول أكثر وأكثر إلى ميراث، أي إلى «ملك طبيعي» لا سبيل إلى تغييره، ومن باب أولى لا يمكنه أن يكون قوة تغييرية. وبالمثل يتدهور المكون الإنتاجي والمحوِّل للطبيعة في اقتصاديات بلداننا لمصلحة المكون الريعي، الاستخراجي أو «الطبيعي» (أو المكون الخدمي، المفتوح على «الخارج»). وبموازاة الاقتصاد الطبيعي، يعم الاجتماع الطبيعي، العائلي والعشائري والطائفي، وكذلك الحكم الطبيعي أو الاستبدادي السلطاني. ولعل في أساس تحول كل من السياسة والاقتصاد والاجتماع إلى «الطبيعية» تدهور قيمة العمل في بلداننا، قيمته المادية كمصدر دخل، وقيمته المعنوية كمصدر للتحقق الذاتي، وقيمته الاجتماعية كقناة للترقي الفردي والعام. قلما يضمن العمل حياة كريمة لأحد. بالمقابل، تضمن السلطة وآلياتها الخام حياة باذخة لكثيرين. ومثلها تتيح القرابة والوراثة، هذا الشيء الطبيعي جدا. العلم أقل من العمل بعد تأثيرا على حياة الأفراد والمجتمع ككل. في بلدان بأكملها من بلداننا يصعب ذكر اسم عالم واحد معروف. ومن قد يكونون معروفين إنما عرفوا بفضل ما حققوه في بلدان الغرب. الثقافة أيضا محدودة الدور اليوم، وبعد أن كانت قبل جيل تحيل إلى التثقف كفعل تعلم واكتساب وتغير في التفكير والحساسية تحيل اليوم إلى الماهية الثابتة والذهنية أو العقلية القارة. وبين المثقفين يتواتر التطور إلى نموذج «المثقف الطبيعي»، هذا الذي ينطق باسم الأهل والأصل ويسرد سِيَرهما، ويجد فيهما «شعباً» طبيعياً جاهزاً ويحظى بشعبية محققة. هذا منتهى التطور. في المحصلة، يجري «تطبيع» السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة، والعمل، أي إلحاقها بالطييعة، وتكتسب ثباتاً يحاكي ثبات البيئة الجغرافية والميراث الثقافي والعامل الدولي، بدل أن تكون قوىً تُغيِّر هذه العوامل الثابتة، أو تُشكِّلها في صور جديدة أكثر استجابة للتدبر البشري. وعلى هذا النحو تتطور في مجتمعاتنا تاريخية طبيعية متثاقلة أو تجميدية، تمييزاً عن تاريخية تقدمية اكتسابية. وقد تفضي هذه التاريخية إلى ارتداد القطاعات الأكثر هامشية من مجتمعاتنا إلى البداوة، الأمر الذي يبدو أنه ينطبق على موجة النزوح الأخيرة من الجزيرة السورية. نفترض أن فرص تجنب هذا التطور المعكوس ممكنة، وإن تكن شاقة. وأول اللوازم أنسنة وعقلنة الميراث الثقافي، الديني بخاصة. وثانيها ضبط التزايد السكاني لئلا يتسبب بإهدار ما قد يتاح من فوائض تنموية، وثالثها نموذج تنمية وتطور تكنولوجي حساس للبيئة واقتصادي حيال مواردها الشحيحة، ورابعها ضبط الصيغ الفظة من تأثير العامل الدولي. وقبل كل شيء إصلاح عميق لهياكل السلطة وأنماط ممارستها، إذ لا تزال الدولة هي القوة التي لا منافس لها في تطور المجتمعات المعاصرة. لكن بينما يسهل قول ذلك، فإن تحققه قد يمر بصراعات ومآس أليمة.