بقيت بعض مظاهر الحرم التقليدية صامدة على رغم مرور كثير من الوقت، فيما بدأت أخرى تنسحب من دائرة الحضور رويداً رويداً لأسباب تتعلق بانقضاء الحاجة إليها في هذا العصر المتبدل، وأخرى لاستعاضتها بتقنيات جديدة في إطار التطور المستمر لحاجات الناس وطرائقهم المتغيرة لقضائها. من ذلك ما حصل ل«آغوات الحرم»، وهم جماعة من الناس تقوم بخدمة الحرمين الشريفين في مكةوالمدينة، وكلمة «آغا» أعجمية مستعملة في اللغات التركية والكردية والفارسية، فعند الأكراد تطلق على شيوخهم وكبارهم، وتطلق عند الأتراك على الرئيس والسيد، وتطلق في الفارسية على رئيس الأسرة، وكانت كلمة «آغا» أيام الدولة العثمانية تطلق على الشيخ أو السيد وصاحب الأرض ورئيس خدمة البيت، وكان كثير ممن خدم في الوظائف العسكرية يلقبون بكلمة «آغا»، وكانت تطلق أيضاً على المخصيين الخادمين في القصر، وفي مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة تطلق من يخدم في الحرمين الشريفين. وممن خدم في الحرم المدني الشاب سعيد، الذي اضطر إلى أن يزيف تاريخ ميلاده ليظفر بفرصة الخروج والسفر لأداء العمرة، إذ كان في بلده الحبشة لا يسمح بالذهاب إلى المملكة للعمرة إلا لفئات عمرية محددة ونجح. توجه إلى اليمن، عبر قوارب بدائية مصنوعة من الخشب يطلق عليها «سمبوك»، وأبحر من ميناء عصب الحبشي، الذي يقع الآن في حدود إريتريا، ومن القرن الأفريقي عبر خليج عدن ووصل إلى اليمن، وهناك استخرج جوازاً يمنياً، استخدمه للدخول إلى المملكة. في اليمن مكث قليلاً لطلب العلم واكتسب علوم الدين وعلوم اللغة العربية ونطقها بعد أن كان أعجمياً فيها تماماً، ثم سافر براً إلى المملكة مع مجموعة من اليمنيين والأحباش، واخترق سواحل وسهول اليمن، من خليج عدن حتى الحديدة وزبيد، في ذي القعدة 1380ه، وكان ذلك في عهد الملك سعود، رحمه الله. توجه إلى جدة، ثم مكةالمكرمة، وقصد المسجد الحرام وصلى فيه وأدى مناسك الحج، ومكث في مكةالمكرمة خمسة أشهر، وفي شهر جمادى الأولى من 1381ه توجه إلى المدينةالمنورة. كان يعمل في خدمة المسجد النبوي 14 من «الآغوات»، جميعهم يكبرونه سناً، وكان وقتها في العشرينات من العمر، ومن بينهم من بلغ ال100 عام، فحضر إلى شيخهم وعرض عليه رغبته في خدمة المسجد النبوي، فأول ما فعله أن قام بتفتيش أجزاء من جسده ليتأكد أنه مخصي، وعاين ذلك بشهادة اثنين ممن يثق بهم من «الآغوات»، ثم صار يوجه إليه أسئلة عدة يستوضح من خلالها سلامة عقيدته وملته، إلى أن بشره بالموافقة على التحاقه «آغا» يفرغ حياته لخدمة الحرم، وبعد أسبوعين حصل على الجنسية السعودية. حينها لازم سعيد المشايخ الكبار، وعمل بمظلتهم، حتى تقدم على زملائه «الآغوات» في الدرجة، على رغم أنه أصغر منهم، ما أهله إلى أن يصبح شيخ «الآغوات» الأخير في تاريخ هذه المهنة قبل أن يتوقف النظام نتيجة فتوى أصدرها المفتي العام للمملكة السابق الشيخ عبدالعزيز بن باز. يعود تاريخ «الآغوات» إلى عهد معاوية بن أبي سفيان، فهو أول من وضع خداماً للكعبة المشرفة من العبيد، وأول من اتخذ المخصيين لخدمة الكعبة هو يزيد بن معاوية، ويرى رفعت باشا أن أول من رتب «الآغوات» في المسجد الحرام هو أبو جعفر المنصور، أما «آغوات» الحرم النبوي الشريف فيعود تاريخهم إلى زمن الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي فهو أول من عين مخصيين لخدمة المسجد النبوي الشريف. ظل «الآغوات» على مر العصور يتميزون بزي معين فوصفهم ابن بطوطة في رحلته قائلاً: «وخدام هذا المسجد الشريف وسدنته من الأحابيش وسواهم وهم على هيئات حسان، وصور نظاف، وملابس ظراف، وكبيرهم يعرف بشيخ الخدام، وهو في هيئة الأمراء الكبار، ولهم المرتبات بديار مصر والشام، ويؤتى إليهم بها في كل سنة». وكان يشترط للالتحاق بسلك «الآغوات» أن يكون مخصياً، وأن يقبل تطبيق نظام «الآغوات» عليه، وأن يرابط في الحرم مدة سبع سنوات متواصلة بناءً على جدول المناوبة ل«الآغوات»، وأن يؤدي واجبه على أكمل وجه، وأن يطيع أوامر رؤسائه، وأن يتمتع بصحة جيدة. في السابق كان البحث عن الذين تتوافر فيهم الشروط المذكورة يتم من طريق «الآغوات» الذين يسافرون لهذه المهمة، فإذا وجدوا من تتوافر فيهم الشروط فإنهم يخبرون به شيخ «الآغوات» فيكتب في شأنه إلى المقام السامي فيأمر وزير الحج والأوقاف بتعيينه ومنحه الجنسية السعودية، ويتم إحضار «الآغا» من طريق السفارة السعودية، وبعد قدومه يجري عليه الكشف الطبي ويعرف بالنظام الذي يحكم «الآغوات» ثم يرفع ملفه إلى وزارة الحج والأوقاف. وأما في الوقت الحاضر فلا يقبل استقدام «آغوات» جدد بناءً على أوامر سامية، وآخر «آغا» تعين بهذا المنصب كان في 1399ه، وعدد «الآغوات» في الوقت الحاضر 14 «آغا» في الحرم المكي، و12 «آغا» في الحرم المدني الشريف. بدأ الاهتمام ب«الآغوات» مع بداية العهد السعودي في 1346ه، إذ صدر مرسوم ملكي من الملك عبدالعزيز نصه: «بخصوص (آغوات) الحرم المكي فهم بأمورهم الخاصة على ما كانوا عليه ولا يحق لأحد أن يعترض عليهم أو يتدخل في شؤونهم». بعد وفاة الملك عبدالعزيز أيد ابنه الملك سعود تقرير والده بتقرير يقول: «إننا نقر (آغوات) الحرم المكي أن يبقوا على الترتيب والعادة التي يسيرون عليها في أمورهم الخاصة، وألا يتعرض لهم في هذه الأمور أو يتدخل في هذه الشؤون أحد». ويذكر «الآغوات» أن الملك فهد يرسل إليهم كل عام مبالغ مالية ومشالح تصلهم من طريق الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، كما تصرف لهم رواتب، إضافة إلى عوائد الأوقاف التي توزع عليهم بالتساوي، وأوقافهم منتشرة في مكةالمكرمةوالمدينةالمنورةوجدة والطائف والأحساء، ولهم أوقاف في العراق والمغرب واليمن. في السابق كان «الآغوات» يقومون ب42 وظيفة في الحرمين الشريفين، منها غسل المطاف وتنظيف الحرمين من فضلات الحمام وإنارة القناديل وغير ذلك من الأعمال، أما في الوقت الحاضر فانحصر عملهم في أربع وظائف، هي: المشاركة في استقبال الملك والوفد المرافق له، وخدمة ضيوف الدولة من رؤساء ووزراء وغيرهم من المرافقين والتابعين، إذ يفرشون لهم السجاد ويقدمون لهم ماء زمزم، وفصل النساء عن الرجال أثناء الطواف، ومنع النساء من الطواف بعد الأذان. وفي المسجد النبوي الشريف يقوم «الآغوات» بتنظيف الحجرة النبوية وفتحها للضيوف عند الحاجة، واستقبال ضيوف الدولة عند باب السلام ومرافقتهم وملازمتهم إلى أن يغادروا المسجد النبوي الشريف.