فتاة في العاشرة من عمرها، تفوقت في دراستها وكانت محل أنظار جميع من حولها بالمدرسة، تلك الفتاة ابتلاها الله بدروس منذ نعومة أظافرها حتى فارقت الدنيا... خمسة أخوة من الذكور وأخت واحدة من الإناث، جميعهم في سن الزهور، تحملت مسؤوليتهم بعد مرض والديها وعجزهم عن الحركة، قررت التوقف عن الدراسة في نهاية التعليم الإبتدائي، لتبدأ الكفاح في مدرسة أخرى تعلمت فيها الكثير وعلّمت فيها الصغير والكبير، وأصبحت عميدة مدرسة الحياة من وجهة نظر كل من تعامل معها. كان لابد لها أن تراجع واجبات أخوتها المدرسية، وتصنع لهم وجبات طعامهم قبل الذهاب للمدارس وبعد عودتهم، وكبرت الفتاة ومتعها الله بقسط وافر من الجمال، تقدم لها ابن خالتها ليتزوجها، وكان رجلاً على مستوى عالٍ من الرقي، يلعب رياضة التنس ويعزف الموسيقى ويتقن لغات عدة، ناهيك عن تفوقه الدراسي والعمل معاً، وكان حلماً لفتيات زمانه مجرد الارتباط برجل مثله، ولكنه أصر على الزواج من هذه الشابة لعلمه تماماً من هي، وما الرسالة التي عاشت لها. اشترطت عليه أن يكون مهرها هو ذهابها إلى بيت أبيها يومين في الأسبوع لتكمل مسيرة العطاء، وبالفعل كانت تحمل أباها إلى حمام منزل العائلة على كرسي متحرك وتدخل به وحدها لتنظف له كل قطعة في جسمه، وتخرج به بجلبابه الأبيض مصفف الشعر ومعطر بكل ألوان العطور، وكانت تبالغ وتستمتع بتدليله وكأنه طفل من أطفالها، وعند الانتهاء من المهمة تقفز في سيارة الأجرة مع ابنها لتعود إلى بيتها مرة أخرى لتعد طعام الغذاء قبل أن يحضر زوجها من عمله حتى لا تشعره لحظة أنها قصرت في حقه. كانت سيدة تحب المساكين وتقوم بتجميع العاملات والشيوخ الضعفاء لتطعمهم، وكان زوجها يتضرر من جلوس الفقراء في أرضية مطبخها، وكانت تجتهد في أن يغادروا المنزل قبل حضوره كلٌّ ومعه حصة طعام لأهله... وكانت توصي أبناءها ليراقبوا بوابة الحديقة ليخبروها بحضور أبيهم حتى تخرج العاملات من الباب الخلفي. بلغت تلك السيدة سن «37 عاماً» وتوفي شريك حياتها في سن الشباب غريقاً أثناء ممارسة رياضة التجديف، وحزنت عليه حزناً شديداً، لكن حزنها لم يثنها عن الاستمرار في أداء رسالتها، وقاطعت ملذات الدنيا، وقررت أن تتفرغ لأبنائها الثلاثة، ورفضت كل من تقدم لخبطتها وكانت لأبنائها أماً وأباً ومعلماً ومفقهاً في الدين ونبراساً ينير لهم طريقهم، وكانت تنظر لمن يخطئ منهم نظرة حادة تكفيه لكي لا يكرر ما فعل، وقفت في طوابير البقالات والمحال التجارية لشراء حاجات المنزل بنفسها ولم تُشعِر أبناءها لحظة أنها تحتاج لمن يساعدها في أي شيء، وتفرغوا لدراستهم وتفوقوا جميعاً وتخرجوا في الكليات، وآن الأوان لتلك السيدة أن تجني ثمار كفاحها وترتاح، ولكن هيهات هيهات لمثل هذه المرأة التي أراد الله أن يسكنها فردوسه الأعلى بأشد أنواع الابتلاءات، وأصيبت أختها الوحيدة بمرض الصرع وأصبحت شغلها الشاغل، على رغم تقدمها في السن إلا أنها تحملت مسؤوليتها كاملة بنفسها وقامت برعايتها على أكمل وجه، وحان وقت الرحيل، وأصيبت تلك السيدة العظيمة بجلطة مفاجئة رفعت روحها إلى بارئها في أسابيع قليلة، لتغادر الدنيا بمن فيها، وتترك لمن بعدها دروساً لكل أخت وكل أم وكل بنت تريد أن تعرف كيف تصل إلى الدرجات العلا، وكيف تؤدي رسالتها على أكمل وجه... رحمك الله يا أمي وأسكنك فسيح جناته. مستشفى الملك عبدالعزيز الجامعي [email protected]