الخميس 19 آب (أغسطس) الجاري جلس نحو أربعين وفداً في الأممالمتحدة يتداولون في سبل مساعدة الباكستانيين. لم تكن هناك حاجة الى كلمات، وإنما الى مساعدات من كل نوع، أموال وأطعمة ومعدّات، وكل شيء، كل شيء، لأن هناك حياة بل حيوات اندثرت بكاملها تحت السيول، بيوت وحقول ومواشٍ ومركبات، انجرفت كلها دفعة واحدة، وبات نحو عشرين مليون انسان كأنهم ولدوا لتوّهم، شيوخاً وشباناً وأطفالاً، وكأن لم تكن لهم حياة سابقة، قبل غضبة الطبيعة عليهم. كان قد مضى على الكارثة أكثر من عشرين يوماً، ولم يكتشف هولها وحجمها، إلا بعدما ذهب بان كي مون بنفسه لمعاينتها، فلا أحد في العواصم الكبرى أراد أن يقدّر ضخامتها، لا أحد انتبه الى علاقتها بأزمة التغيّر المناخي. لا شك في أنهم رأوا الصور، لا شك في أن الطائرات نقلت اليهم مشاهد من فوق تظهر بحيرات بمساحة دول، إلا انهم لم يصدقوا، فلا وقت لدول «التحالف الدولي» لمثل هذه القصص، فهي لا تزال في غمرة الحرب على الإرهاب، تحديداً في باكستان. قبل يومين فقط من بداية الأمطار كان موقع «ويكيليكس» أمطر دوائر العسكر والسياسة بوابل عشرات ألوف الوثائق التي تفضح الحرب وأبطالها. انها تسريبة العصر، ولا سابقة لها. وها هي تقذف على اسلام أباد حمم الاتهامات القديمة المتجددة بأنها و «طالبان» في حلف لا تفلح عاديات الدهر في زعزعته. وعندما هبط آصف علي زرداري بطائرته في باريس ثم في لندن، مصرّاً على جولته رغم الكارثة، لم يُسأل عن أكثر من ألف قتيل كانوا قضوا في الفيضان، انما عما يحمله من تطمينات للغرب في شأن عزم حكومته على محاربة الإرهاب. وفي الأثناء، لم تكن تسمع أيضاً أي استغاثة من حكومته لحض العالم على التحرك، إذ تأخرت هي أيضاً في إدراك ما يحدث. وقبل يومين، أي بعد خمسة وعشرين يوماً على بدء الكارثة، فجّر أحد المسؤولين الدوليين عن الإغاثة حرقته، قائلاً ان ضعف استجابة المجتمع الدولي أمر «خارق للعادة» بالنظر الى أزمة انسانية تعتبر الأكبر في العقود الأخيرة. وكان الأمين العام للأمم المتحدة تساءل: لماذا أصاب العالم البطء في استيعاب حجم الكارثة؟ وكانت لديه اجابة مفادها انها ليست من الكوارث «المثيرة» التي تناسب التلفزيون والكاميرات، إسوة ب «تسونامي» تسرق آسياه لكنه اعتبرها «تسونامي» آخر، لكن بالسرعة البطيئة. كان السريع حصد في ثوان نحو مئتي ألف قتيل، أما الآخر البطيء فقد يقضي على عدد أكبر انما بسرعته، على مد الأسابيع والشهور الآتية، بفعل ما حملته المياه من أمراض وأوبئة. فليس الإنسان وحده وإنما الطبيعة تتفنن أيضاً في القتل والتعذيب والتخريب. في تلك الجلسة في الأممالمتحدة أعربت هيلاري كلينتون عن أملها في أن تطبق «هدنة»، ضمنية غير متفق عليها، بين «الإرهابيين» ومحاربيهم، لتمرير المأساة وتسهيل وصول الإغاثة، وانتظاراً لانحسار المياه وعودة الأمور الى مجراها. لم تنسَ كلينتون «طالبان» و «القاعدة»، ولا «طالبان» نسيت للحظة انها في حرب، بل لعل الأخيرة رأت في الحدث الطبيعي عوناً لها من السماء. كانت ملايين الناس هائمة على وجوهها بحثاً عن أي شيء يمكن أن يشبه الملاذ، وكان عدد من العسكريين يتململون في مكاتبهم البعيدة، من جراء تقارير أبلغتهم ان جماعة «طالبان» تستغل الظروف وتقدم مساعدات للمنكوبين. هنا الخطر، كل الخطر، إذ لا يمكن الاستمرار في «الاستراتيجية» نفسها، لا بد لأميركا أيضاً من أن تجد استراتيجية ما للاستفادة من الكارثة. لكن المذهل كان ولا يزال في عدم تحمس «المجتمع الدولي» للإغاثة. وإذا كان لرد فعله أن يدرس، فلا شك في أن يقدم اختباراً مفزعاً لتراجع التضامن الإنساني العالمي. كل الأفكار متاحة لتفسير هذه الحال، ولعل أكثرها وضوحاً ما أدلى به المدير التنفيذي لمنظمة «كير» الإغاثية، قال ان المشكلة هي باكستان نفسها، فصورتها لدى الرأي العام «غير طيبة» وسمعتها سيئة تراوح بين فساد الحكم وإرهاب «طالبان»، ثم أن أحداً لا يُقبل باندفاع على التبرع لدولة متّعت نفسها بترسانة نووية الى جانب احدى أكبر نسب الفقر في العالم. ليس في بطء الإغاثة أقل من انذار بأن العمل الإنساني صار مرشحاً للخضوع لاعتبارات الانتقاء والتمييز واستخدام الوارث لمحاسبة الشعوب على ذنوب لم تقترفها. ومن يدري، فقد تدخل اعتبارات الأديان والأعراق والثقافات والمصالح في تحديد سرعة الإغاثة. حتى ان صحيفة «كريستيان ساينس مونيتور» تساءلت أين أصدقاء باكستان المسلمون وقد احتاجت اليهم في محنتها، وأين حليفتها الكبرى الصين، لماذا لم يساعدوها؟ وإذ سجلت الصحيفة ان السعودية ساهمت بثمانين مليون دولار، فإنها فنّدت مساهمات دول الخليج الأخرى وإيران لتشير الى تواضعها، مشددة على أن لدى الدول المسلمة «سبباً وجيهاً» لمساعدة باكستان كونها ثانية كبرى الدول المسلمة في العالم. في أي حال، بالنسبة الى باكستان ذاتها، حكومة وشعباً، لا تزال الأزمة المتأتية عن الفيضانات في بداياتها. فالأصعب هو إدارة ما بعدها، بما تتكلفه من مال وجهد لتمكين شعب كامل من استعادة بعض من حياته. وليس معروفاً الى أي حد يمكن الكارثة وانعكاساتها ان تساهم في معالجة أسباب الحرب على الإرهاب. فالتوقعات الأولية لا ترى تغييراً، بل تميل الى ان المخاطر ستزداد، خصوصاً إذا خرجت الدولة الباكستانية أكثر ضعفاً وهشاشة. وكان لافتاً للخبراء الأمنيين ان المواقع الالكترونية للإسلاميين لم تعبأ بالكارثة وواصلت بثها المعتاد كأن شيئاً لم يحدث. على العكس، لعلهم يستشعرون أجواء نقمة عارمة ستعود عليهم بفوائد لم يكونوا يتوقعونها. ألم تنتهز «طالبان» الفرصة للانتقام من قبائل تطوعت لقتالهم ثم وجدت نفسها في عزلة الفيضانات بلا حول ولا قوة بسبب تفكك مؤسسات الدولة وانهيارها في منطقة المواجهة. بعد «تسونامي» عام 2004، جاءت فيضانات باكستان، والبعض يضيف حرائق روسيا، لتشكل انذاراً حاسماً بأن مفاعيل التغير المناخي باتت تتطلب من العالم أكثر من مجرد قوة تدخل سريع للإغاثة. وعندما تقترن كوارث الطبيعة مع حروب البشر على أرض واحدة تبدو قوانين الكون كأنها توقفت، لتصبح الحياة والموت شيئاً واحداً، ولهذا تقدم كارثة باكستان، بعجزها عن تغليب الحسّ الإنساني على نزعات القتل والإبادة، كأنها مشهد من سيناريو المستقبل وتخبط الإنسان بين تطرفه وتطرف الطبيعة. * كاتب وصحافي لبناني