في شريط سينمائي، روائي ووثائقي جماهيري، «زِدْ»، تناول الحوادث التي أدت الى استيلاء العسكريين اليونانيين اليمينيين على الحكم بأثينا في ربيع 1967، يروي القصاص اليوناني (فاسيليكوس) والمخرج الفرنسي (كوستا غافراس) حادثة مهدت للاستيلاء العسكري هي اغتيال احد قادة المعارضة اليسارية، ونائبها البارز في المجلس النيابي. ويفترض ان يؤدي الاغتيال إلى إشاعة الفوضى، وإلى ترشيح القوات المسلحة نفسها، وقيادة أركانها، ضامنة للاستقرار، وولية أمر «الشعب» موقتاً، على ما كان شائعاً في «دول» عالم ثالث مزركش ومختلط. وعندما ينتهي خبر الاغتيال الى أصحاب النائب البارز، ويتدافع الناس في مقر تياره وحركته، وتدب حمى التداول والتخمين في هوية القتلة، ينبري احد المقربين من القتيل، وأكثر الأنصار حماسة وانفعالاً، ويقول: «إنهم الأمريكان! إذا كنا نحن لا نعرف كيف قتلوه فهم لا شك يعرفون». وغداة 5 أعوام على الحكم العسكري القاسي، مع عودة الديموقراطية واستئناف سلطة القضاء نظرها في الأدلة والوثائق والشهادات والتحقيق، ظهر ان النائب اليساري انتخب للقتل، واختير هدفاً بسبب دعوته تياره الى الاعتدال ومفاوضة الطرف الأطلسي، والأميركيون جزؤه الأقوى، على صيغة إخراج اليونان من الاستقطاب اليميني – اليساري، وتهديده الحياة السياسية الوطنية بحرب أهلية دابة تشل هيئاتها، وتحكِّم فيها المتطرفين العنيفين، وتحول دون عمل الهيئات المنتخبة والوسيطة. فقتل المتطرفون والساعون في الاستيلاء على الحكم، والمتربصون التخريب بالنظام التمثيلي، من كان في مستطاعه ربما الحؤول دون سيطرة اليمين العسكري العرفي على الحكم من طريق مفاوضة عسيرة، ومحفوفة بالمخاطر، مع عدو معسكره وولي أمر معسكر خصومه. وفي أثناء الاستقطاب «الحربي» البارد، وفي أوقات الاستقطابات الحادة الأهلية والإقليمية عموماً ربما، يختار المتطرفون والمتصارعون من قطبي الصراع المعتدلين والمتوسطين ضحايا أعمال القتل، وانتسابهم الظاهر والحقيقي الى أحد طرفي الصراع يقوي الداعي الى قتلهم. فقتلهم يخرج أنصارهم عن طور الاعتدال والتوسط، وينصب المتطرفين والمتهورين في قيادتهم، ويسوغ تكتل خصومهم تحت لواء متطرفيهم. وعلى هذا فتهمة «الأمريكان» الذين «يعرفون»، في انتظار ان «نعرف» نحن وتصدق تهمتنا، ويصدق حدسنا الذي لا يخطئ، هي من أدبيات يسار أعمى ومتهور، ومن محفوظات يمين لا يقل عن خصمه عمى وتهوراً. ويشبه، اليوم، اتفاق رئيس أركان الحزب الخميني المسلح بلبنان ورئيس أركان الجيش الإسرائيلي على انتظار القرار الظني المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في ايلول (سبتمبر)، و «إدانته» (الظنية) مسؤولين وقادة أمنيين في الحزب الخميني المسلح، وعلى توقع انقسام أهلي وسياسي لبناني على المطالعة الظنية – يشبه إجماع كلا متطرفي اليسار واليمين اليونانيين على استدراج الاغتيال. ولا يكتم «سماحة الأمين العام» اعتزازه بوحدة مصادره و «مصادر العدو»، على قوله في واحدة من حلقات روايته ومحاوراته. وهي شبهها روائي بوليسي، بريطاني – لبناني، من غير تحفظ ولا ابتسام، بإحدى محاورات أفلاطون البارزة. وتاريخ القضاء الثوري العربي و «الإسلامي»، في البلدان والأقاليم العربية، منذ قيام الثورات الانقلابية العسكرية والجماهيرية العامية، إكليل غار على هامة العدالة. ومرجع القضاء المزعوم هذا حيث قام هو فوكييه – تانفيل، جزار الإرهاب الثوري الفرنسي في أثناء الثورة الكبرى، والحقبة المعروفة باسم متوليها «الفاضل» وكاهن «العقل»، روبسبير. والمرجع هذا ليس قاضياً. وهو لم يكن لسان هيئة محلفين علنية، بل كان مدعي الحق العام، ومحامي الجهة المتقاضية المدنية، وقاضي التحقيق، والقاضي النافذ الحكم من غير حق استئناف ولا نقض. ونصبت العدالة الستالينية، السوفياتية والشيوعية، خلفاً لفوكييه – تانفيل، جزار نحو 2400 «رأس» (حرفياً)، هو فيشينكي. ويعرف الرأي العام العربي الرجل مندوباً دائماً وسفيراً الى الأممالمتحدة ومجلس أمنها. وكان الجزار السوفياتي والستاليني نصيراً لل «قضايا» العربية، وفي صدارتها القضية الأولى. وبينما وسع القاضي المصري الذي تولى النظر في قضية «جمعية الأخوان المسلمين»، و «الجهاز الخاص» العسكري والأمني، غداة اغتيال حسن البنا، وسعه تغيير رأيه في القضية، في اثناء المحاكمة، لم يقيض شيء من هذا للمحاكم العسكرية الناصرية التي «نظرت» في قضايا «الإخوانيين» اللاحقة، من 1954 (محاولة اغتيال جمال عبدالناصر عن يد إخواني، مدسوس على الأرجح، سوغت محاولته انقلاب عبدالناصر على أصدقائه وإيقاعه بهم) الى 1966 (إعدام سيد قطب). فالضباط «القضاة» ليسوا من المعدن المتقلب الذي يصنع منه حماة الثورات، على ما «يعلِّم» الأخوان كاسترو منذ نصف القرن. وهم صادروا الإقطاعيين والمستعمرين واليهود والأجانب (اللبنانيين) على «سرقاتهم»، غداة العدوان الثلاثي، من غير ان يرف لهم جفن ضعيف، أو ينهاهم نص أو قانون. ونصبت الثورة العراقية المجيدة الأولى (1958) العقيد المهداوي مدعياً ومحققاً وقاضياً وخطيباً، ومذيعاً مسلسلاً يومياً براديو بغداد. فكان الرجل – وهو قامة فقهية وقانونية تطيق المقارنة ببعض القامات اللبنانية البيروتية والجبلية التي تطالب اليوم ب «استرجاع» القضاة اللبنانيين من المحكمة الدولية المختلطة الخاصة بلبنان، وتصفهم ب «الدمى» – كان يتباسط في كلامه والمتهمين، ويتذاكر الشعر مع من لم تقتلهم عدالة الشعب سحلاً وتقطيعاً، ويتمادى في «تحليل» أفعالهم، ويعدهم الخير قبل قتل بعضهم. ومهد هذا تمهيداً رفيقاً بانتصاب صدام حسين في مؤتمر حزب البعث العربي الاشتراكي بالعراق، غداة إنشاء جبهة التصدي والصمود مع الشقيق الشامي («لا دمشق»، على قول فتى الساحل) في 1978، اميناً عاماً قطرياً وقومياً ومدعياً «عاماً» وسيافاً قاتلاً برصاصة واحدة سمع أعضاء المؤتمر المنتخبون من مقاعدهم انفجارها في فناء المؤتمر، وفقهوا من غير البناء على المقتضى والاستدلال والاستقراء مصرع «صاحبها». وأوكل آية الله العظمى الإمام الخميني، «المستوفي شرائط العدل»، القضاء الثوري، ابن الثورة «الإسلامية»، الى آية الله محمد صادق خلخالي. وطالت ولايته الى منتصف الأعوام الثمانية التي دامتها الحرب العراقية – الإيرانية الضروس والتي تخللتها حروب أهلية ضارية على جهتي الجبهة. فكان آية الله سيفاً بتاراً من سيوف الحق، يعلو ولا يعلى عليه، يقضي ويصادر ويميت ويحيي (على معنى زعم فرعون في التنزيل). ودامت سيرته الى حين عزل الرجل خفية، ومن غير «نشر غسيله». وعُرف، خفية على ما تحب أنظمة المستبدين العدول والمطلقي اليد في الأموال والدماء (ومنها «ولي الدم» التي استعيض بها عن الحق العام والحق المدني الاستعماريين و «الاستحماريين»، على قول «المفكر» علي شريعتي) والفروج، انه كان يصادر ورثة القتلى «المقبورين» (الإمام الخميني) على أموالهم المنقولة وغير المنقولة، وعلى «سبيهم» أو نسائهم وهن جزء من غنيمة الحرب. وحين آل الأمر الى محمد خاتمي، تولت وزارات القوة الثورية، وزارة الاستخبارات ووزارة الحرس الثوري ووزارة الداخلية والقضاء الشرعي الثوري (قبل ان يؤول الى صادق لاريجاني)، «معالجة» المعارضة بالاغتيال. فلما اضطرب حبل الأمن «الثوري»، في أثناء الانتخابات الرئاسية وبعدها، وصادرت وزارات القوة والأمن والاستقرار الثورية الناخبين على اقتراعهم ورأيهم، تولى القضاء، وهو دوائر على عدد الكتل والمراتب والأحلاف والمصالح، «النظر» الصارم والحاسم في الأمور. فنظر و «حقق» وادعى واحتج وبيَّن وقتل من رأى جواز قتله. واليوم، أي قبل 3 أيام تقريباً، خرج مستشار المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية في إيران للشؤون الدولية على «لبنان»، من طريق رئيس مجلس النواب وداعية «قراءة (التاريخ) من كتاب واحد» (كتاب يجيب «عن موقف الرئيس كميل شمعون آنذاك 1958 – هل كان خيانياً أو وطنياً» جواباً واحداً: «خيانياً»، وليس جوابين على ما لا يجوز بحسب فقيه التاريخ التبنيني العاملي)، خرج المستشار بالقول: «المحكمة الدولية أصبحت في أيدي إسرائيل وحلفائها». وزاد السامعين إيضاحاً، فذهب الى أنها «أصبحت أداة سياسية في يد الولاياتالمتحدة الأميركية والكيان الصهيوني». والحجة الدامغة، على ما سبقه إليه رئيس مجلس شورى المرشد الأعلى للجمهورية هي «نفي أخينا العزيز السيد حسن نصر الله أي علاقة للحزب بهذه القضية». وكان إخوة أعزاء آخرون، يعتز وزير خارجية الإمام الخميني طوال الحرب العراقية – الإيرانية و «الإسلامية» بأخوتهم من غير شك، نفوا مزاعم كثيرة تناولت التزوير والتوقيف والتعذيب والقتل والاختفاء والخطف والصرف من العمل والاضطهاد، وثبت صدقها. ولم يبدل المستشار العتيد رأياً. وها هو يوسع اختصاصه القضائي «العادل»، ويطل بعدله المستوفي الشرائط على «الكونية»، على قول القضاء الجزائي الدولي الوليد حين يُحرَّك في حق سياسيين وعسكريين إسرائيليين (و «يقف» عندهم ولا يتعداهم، إذا استثني «زملاء» لهم إيرانيون منذ بعض الوقت ولكن ن طريق أخرى غير طريق الاختصاص الكوني وبابه). والمسألة القضائية التي يتطرق إليها القوم الخميني «العزيز» في الحاضرة والأطراف وما بينهما، يمخرون عبابها، ويبسطون ويطوون أشرعتهم وهم في مركب من ظنون، على ما كان قال علي محمود طه (شاعر «كليوباطرا»). والمدعي العام الخميني (اللبناني)، على المثال العربي والإقليمي الثوري، هو المحقق ومتقصي الأدلة والضابطة العدلية ومحامي الدفاع والقاضي والمجتهد والمفتي وناظر السجن ومنفذ الحكم معاً. وليس هذا افتراء. فحين تولى الحزب الشيعي المسلح، وهو يومها (على ما هو على الدوام) «الثورة الإسلامية (الإيرانية) في لبنان»، في 1985، «التحقيق» في جريمة متفجرة بئر العبد التي قصد بها الراحل محمد حسين فضل الله وأودت بنحو 80 – 90 ضحية، اضطلع بهذه الأدوار كلها من غير استثناء. وانتهى به الأمر الى قتل 11 مظنوناً من الفتيان والفتيات. ونصب هذا مثالاً لعدالة لم يفتأ مذذاك، هو ومن يأتم بهم، ويأتمر بأمرهم «شرعاً» وسياسة وحرباً وإعلاماً (وهذه كلها، في اعتقاده، واحد)، مزاولتها وانتهاجها. وهو لا يحيد اليوم عن الطريق «المستوية» هذه. فيروي في العدالة الدولية – اللبنانية المختلطة، وعنها، أخباراً لا أثر منها في التقارير المعلنة والمعروفة. فلا أثر في التقارير هذه – منذ تقرير فيتزجيرالد الأول، وهو ميز الظن الذي يقوده الرأي في تعاقب الحوادث وإطارها (وهو «التحاليل» المزدراة) من الدليل المحقق والثابت والمؤيد بالبينات المادية، الى تقرير بلمار الأخير، وبينهما تقارير ميليس وخلفه البلجيكي برامرتس – لا أثر فيها لتهمة «سورية» أو بعض أجهزتها ولا أثر لتهمة أجهزة لبنانية. ومعظم فقراتها روايات مطولة لتحقيقات تفصيلية اقتفت مصادر العناصر المادية، مثل حركة الاتصالات الكثيفة التي تعقبت رفيق الحريري منذ صدور القرار 1959 تقريباً الى الساعة 12 و56 دقيقة ظهر الاثنين الواقع في 14 شباط (فبراير) 2005، أو مثل هوية الشاب الذي قتل في انفجار سيارة شحن «الميتسوبيشي» حين مرور سيارة رفيق الحريري (وهذا الشاب أراد رجال أمنيون كبار «جعله» أحمد أبو عدس ليس من طريق الإثبات الإيجابي، الذي عملت التحقيقات في سبيله، بل من طريق استحالة إثبات خلافه أو «موت – أبو عدس - أمنياً»، على قول رجل الأمن السياسي النافذ)، أو غيرها من الأدلة. واستعادة برامرتس عناصر التحقيق واحداً واحداً، وهذا منذ سنة التحقيق الثانية، قرينة على انضباط التحقيق على معايير قضائية خالصة، وإمساكه عن ترك «التحليل» على غاربه. ويتمسك أصحاب القضية الإسرائيلية، وأولهم هو الرئيس السوري الذي جمع موت ياسر عرفات واغتيال رفيق الحريري في باب الإرهاب الإسرائيلي في أول خطبة له بعد الاغتيال في شتاء 2005، ب «دليلين» هما عملاء الاتصالات اللبنانية الذين اكتشفهم جهاز شعبة المعلومات «غير الشرعي» على قول «عماد» أمني مستحدث، والشهود الكاذبون. ولا ريب في ان المسألتين محيرتان، وتدعوان الى التساؤل والاستفهام وتقتضيان الجواب. ولكن مصدر الحيرة هو غموضهما، وغموض المسالك التي قد يؤثر منها عمال وعملاء الاتصالات المفترضون والشهود الكاذبون في «صناعة» الأدلة أو تمويهها. ويتوسل اصحاب القضية الإسرائيلية ودعواها بهذا الغموض الى «إيضاح» روايتهم وخبرهم المفترضين وإثباتهما إثباتاً قاطعاً. وهذا خُلف، على وجوه الخلف (والدور) كلها. وحين يعلن المدعي العام والخاص والمحقق والقاضي والجلاد والمحامي عزمه على إعلان روايته في حلقة آتية من محاكمته المتسلسلة، يغفل الإجابة عن السؤال الذي يهجم على ذهن المستمع. وهو سؤال عن انتظار المدعي الكثير الصفات وجامعها 5 سنوات ونصف السنة قبل المبادرة الى الإعلان عن عزمه ونيته. والحق ان تولي اشخاص افراد وآحاد أو جمعياتُ (ناشطين غير حكوميين، على ما يدعون) التحقيق في جرائم كبيرة، مثل اغتيال الرئيس الأميركي جون كينيدي في خريف 1963، أو «صغيرة»، مثل مقتل محتجز أطفال فرنسيين في 2002 هدد بقتلهم بسلاح ظهر انه لا يعمل، أمر شائع. وقد يؤدي الى الحقيقة وقد لا يؤدي. وهو قد يدل على ثغرات التحقيق المأذون، وقد يؤدي الى محاكمة جديدة، وقد يسفر عن تخبط جديد. ولكن ما يلوح به المدعي الجامع الصفات القضائية كلها ليس من هذا الباب. فهو يزعم رسوخ دعواه في الحقيقة من غير دليل إلا دليل الفاعل وتحسينه، أو الحكم ب «حسنه» ونفي جواز الزلل عنه، على قول المتكلمين، لا لشيء إلا لأنه هو. وهذا ما يذهب إليه المستشار ولايتي. ويقتضي هذا تصديقاً وتسليماً قد لا يُمن بهما على المتواضعين، من غير الآيات أو الألوية او الحجج المتكاثرين تكاثر الفطر بعد الشتوة الأولى. * كاتب لبناني