علي المنوفي أستاذ اللغة الإسبانية وآدابها في جامعة الأزهر، نقل بعض كنوز الحضارة الأندلسية في مجالات الفنون والعمارة والآداب إلى اللغة العربية، عبر عدد من الكتب، منها «الفن الأندلسي»، «إسبانيا في تاريخها»، «الفن الطليطلي»، «العمارة المدجنة»، و «الشعر الإسباني خلال القرن العشرين». هنا حوار معه: لماذا اخترت التخصّص في الأندلسيات؟ - تخصّصي هو الشعر الإسباني المعاصر، وكان موضوع أطروحتي للدكتوراه هو بابلو غارسيا بايينا، أحد الشعراء القرطبيين. عندما تأملت المشهد الثقافي المتصل بمتابعة الموروث التراثي العربي الإسلامي، وجدتُ نوعاً من القطيعة بين جيل الرواد الذي ساهم في تكوينه الدكتور طه حسين بإنشاء المعهد المصري للدراسات الإسلامية، وكان من هؤلاء حسين مؤنس ومحمود علي مكي والطاهر مكي وجمال محرز. ثم انقطعت الصلة في البعثات المصرية المتخصصة، أو كادت، بخاصة في مجال الدراسات الآثارية. ولما وجدت هذا الفراغ، ضمن جوانب قصور أخرى في أفرع المعرفة في مصر، اتجهت إلى ترجمة أبرز الكتب في مجال الفن والعمارة في الأندلس، ثم تاريخ إسبانيا الإسلامية، بالتعاون مع زملاء، ثم العناية أيضاً بالمسار الذي سار فيه الموروث التراثي العربي الإسلامي متجهاً نحو الغرب أي نحو العالم الجديد مع بدايات القرن السادس عشر الميلادي. نجد إذاً أن محاولتي هي العمل على استئناف الحوار بين الباحثين الإسبان والباحثين العرب في مجال الدراسات الأندلسية، ذلك أن هناك حاجة دائمة إلى معرفة المزيد، إذ لا تكفي كتب التراث العربية ولا الدراسات العربية وإنما هناك ضرورة ملحة لمعرفة المستجدات ومضاهاة الروايات العربية في هذا المقام بما هو على أرض الواقع، سواء الآن أو آنذاك، كما أن للتراث قراءات متعددة ومن زوايا مختلفة في الزمان والمكان، وهذه جدلية لا تنتهي وما استمرارها إلا علامة على الثراء والتفاعل نقدياً مع الماضي وليس تبجيلاً محضاً له. كيف تفسّر قيام الإسبان بحرق مكتبة قرطبة التي كانت تضم أربعمئة ألف كتاب، وقد استمر حرق المخطوطات في إسبانيا لقرون حتى صار عيداً سنوياً واحتفالاً شعبياً؟ - التشدّد هو الملمح الرئيسي الذي يدفع إلى تصرفات غير حضارية على الإطلاق، وهذا نراه في فترة من الفترات شديدة التوتر بين التوجهات التي تتصارع على الساحة. هنا نذكر تحديداً حرق مكتبة ابن رشد في عصر الموحدين الذين مارسوا التطهير العرقي والثقافي، وبالتالي ساهموا من دون أن يدروا، في مغيب شمس الأندلس. نعود إلى موضوعنا، وهو قيام الممالك المسيحية بحرق المكتبات بعامة. هم كانوا يرون أن الصراع ديني، فراجت محاكم التفتيش التي كانت تصب جام شكوكها على الجميع. لقد خسر الإسبان عندما أحرقوا الكتب، وعندما لم يفيدوا إلا بالقليل من خلال الترجمات إلى الرومانث (اللهجة المحلية للاتينية في شبه جزيرة أيبيريا) مقارنة بما أفادت به أوروبا من خلال مدرسة الترجمة في طليطلة ومدرسة صقلية. وخسروا عندما طردوا من بقي من المسلمين من عمالة متقدمة ومدربة، بخاصة في الحرف والزراعة، فتخلفوا عن أوروبا أعواماً طويلة. لماذا اتحدت أوروبا على إخراج المسلمين من الأندلس طالما أنهم كانوا مصدر إشعاع حضاري؟ - هناك بعض الباحثين المحايدين الذي قالوا بذلك منذ زمن، بمعنى أن الثقافة العربية الإسلامية هي مكون أصيل في تكوين الهوية الأوروبية، لكنهم، اختاروا ثلاثة مكونات لهويتهم تتمثل في اللاتينية كلغة وفي الحضارة الرومانية وفي المسيحية، وتنحوا أو تخلوا عمداً عن الحضارة العربية الإسلامية. كان هذا الطرح الجديد متوافقاً مع عصر النهضة وبداية التطور الحقيقي في أوروبا وما أعقب ذلك من الثورة الصناعية الأولى، ومتوافقاً كذلك مع الانحطاط في المنطقة العربية الإسلامية ومع الصراع مع السلطنة العثمانية، وهو صراع اقتصادي في الأساس. هذه العناصر يمكن أن تفسر لنا السبب في اتحاد أوروبا ضد المسلمين في الأندلس (لا ننسى الحروب الصليبية وأنها كانت تدور في الشرق والغرب) هذا أولاً، وضد أن يكون المكون التراثي العربي الإسلامي أحد أعمدة الثقافة الأوروبية المعاصرة. فلو اتبعوا غير ذلك لتغيرت مجريات كثيرة. على رغم بقاء المسلمين نحو ثمانية قرون في إسبانيا إلا أنهم فشلوا في فرض اللغة العربية، في حين نجح الإسبان في نشر لغتهم في دول أميركا اللاتينية؟ - كانت اللغة العربية في عصر ازدهار الإسلام في الأندلس لغة العلم، واللغة التي كان أبناء المستعربين من المسيحيين يتحدثون بها. علينا أن نشير إلى نقطة مهمة، وهي أن المسلمين لم يقهروا ثقافات البلاد التي فتحوها، بمعنى أنهم لم يمنعوا السكان من التحدث بلغاتهم الأصلية. ومن الثابت تاريخياً، أن عالم النحو الإسباني نبريخا (القرن ال16 الميلادي) قد وضع آنذاك قاموساً وتصرّف بمنهجية عنصرية، بمعنى أنه كان حريصاً على عدم وضع مفردات من أصل عربي وكان يصرّ على اللاتينية. ومع هذا نجد أمرين: أن البروفسور فيكتور غارسيا دي لا كونشا، الرئيس السابق لأكاديمية اللغة الإسبانية، يقول بوجود عشرة آلاف كلمة من أصل عربي في اللغة الإسبانية في الوقت الراهن، كما أن الباحث اللغوي الشهير مؤلف كتاب «إسبانيا في تاريخها» تحدث عن بعض الظواهر في التراكيب النحوية الإسبانية التي لا يمكن فهمها في معزل عن اختلاطها باللغة العربية. وإذا ما قارنتها بحال اللغة الإسبانية في العالم الجديد أقول لك إن الإسبان عندما وصلوا إلى هناك حملوا لغتهم واستخدموها في نشر المسيحية الكاثوليكية. هناك عنصر آخر مهم وهو استمرار العنصر الإسباني بخاصة والأوروبي بعامة في المناطق الحضرية، الأمر الذي أدى إلى الإمساك بزمام الأمور في الدولة، وهذا ما استقر عليه الأمر حتى الآن ومن سماته الحفاظ على اللغة الإسبانية، يعني أن السكان الأصليين هناك هم الذين يسكنون الريف. هم يتحدثون الإسبانية، لكن البعض منهم يتحدث لغته الأم إضافة إلى الإسبانية، وهذا أدى إلى استمرار تلك اللغة. عقب ظهور كتاب «العقد الفريد» لابن عبد ربه، قال علماء المشرق: هذه بضاعتُنا رُدَّت إلينا. إذاً، ما الإضافة التي قدمها الأندلسيون للثقافة العربية والأدب العربي؟ - نعرف أمر الصراع بين المشرق والمغرب الإسلامي على الصعد الفنية والسياسية والفقهية والأدبية كافة، فإذا ما تحدثنا مثلاً عن الموشحات وتكويناتها العروضية وأصولها الأندلسية نجد المشارقة ينقبون عن ذلك في منتجهم الأدبي والفني ليثبتوا أن لهم قصب السبق. لكن الذي لا شك فيه، أن الاتهام الموجّه دائماً إلى المغرب الإسلامي جعله يقبل التحدي والحوار والنقل والتوليف والإبداع حتى أصبحت له شخصيته المستقلة. يرى بعض النقاد أن مذهب الواقعية السحرية مصدره كتاب «ألف ليلة وليلة»، في حين يرى آخرون أن مصدره أميركا اللاتينية... أين الحقيقة؟ - الواقعية السحرية أصبحت من العلامات الفارقة في أدب أميركا اللاتينية، واهتم العالم الغربي بها وسرنا نحن العرب على النهج نفسه. غير أننا يجب أن نتأمل أموراً عدة أحدثت تأثيرها في هذه الطفرة الأدبية الفريدة أو التي يطلق عليها «البُوم»، منها الموروث التراثي الحضاري لشعوب أميركا اللاتينية من حضارات المايا والأثتيك وغيرها، وهو موروث فاعل وسحري وأسطوري وحي بين السكان الأصليين وبين المُخلَّطين والأفارقة، وهذا رافد لا يمكن إغفاله في أية مقاربة لهذه الظاهرة السردية. أما الأمر الثاني، فهو شدة الاحتكاك والاتصال بين كُتاب أميركا اللاتينية والمراكز الثقافية في الغرب والنهل منها، ومحاولة الغرب أن يرى صورته الممتدة عبر المكان والزمان في التجليات الأدبية الجديدة في أميركا اللاتينية. هناك عنصر ثالث وهو الموروث التراثي الأدبي القادم من الشرق، بخاصة «ألف ليلة وليلة»، و «كليلة ودِمنة»، وهو موروث تراثي كان أرضية خصبة نبتت عليها شجرة السرد القصصي في إسبانيا القرن الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر، حيث تجسَّد هذا في الكثير من السرديات مثل قصص الفروسية وقصص الشطَّار، وكانت «دون كيخوته» هي تتويج لهذا كله. هذا هو أحد المشارب غير المباشرة للسرد القصصي في أميركا اللاتينية، أما ما هو مباشر وذكرَه صراحة العظيم خورخي لويس بورخس وغيره من أبناء جيله، فهو الاتصال المباشر بالمصادر العربية المذكورة من خلال الإنكليزية والفرنسية والإسبانية. هذه كلها مجموعة من العناصر التي يجب أن تؤخذ في الحسبان عند الحديث عن الواقعية السحرية، أي أن المكون العربي المباشر وغير المباشر، والشرق الأقصى، والمكون الأسطوري المحلي والتقنية السردية الغربية، كلها أثمرت هذا الابتكار الذي يقول لأوروبا وللشرق: ها نحن قد أخذنا منكم، لكن لنا ملامحنا فلا تبعية باهتة وإنما هناك تفاعل ثقافي فاعل. ما سر الولع بالأدب الأميركي اللاتيني في المنطقة العربية، بل والعالم قاطبة؟ - الولع بأدب أميركا اللاتينية يرجع كما نعرف إلى ما قبل «البُوم»، أي إلى الستينات وما قبلها: وهنا نذكر أدب المهجر العربي الذي كان ثمرة موجات المهاجرين العرب إلى الأميركيتين. تلي ذلك فترة الستينات والثورات على الظلم والفساد في الأنظمة المختلفة في هاتين المنطقتين من العالم، وكان لمعان نجم بعض الشعراء من أميركا اللاتينية دليلاً على هذا، مثل الشاعر الشيلي بابلو نيرودا، الحائز جائزة نوبل في الآداب وتناغم شعر الالتزام عنده بما يحدث في منطقتنا. أي أن البعد السياسي المتمثل في الكفاح ضد الظلم والطغيان والاستبداد كان القاسم المشترك بيننا. ثم يأتي أدب الطفرة الذي كان مسبوقاً بأدب الالتزام في السرد القصصي أيضاً خلال العقود التي سبقت عقد الستينات من القرن الماضي، ويولع الناس به من حيث الطزاجة الفنية في تقنيات السرد وكذا بحثاً عن ملامح عربية في هذا الفن. فهناك الأجيال العربية الثانية والثالثة التي أخذت تتبوأ مكانة مهمة في الساحة السياسية (من رؤساء دول من أصل عربي ورؤساء وزراء ومئات من النواب في البرلمانات المختلفة) والاقتصادية والفنية والأدبية. وهنا أود الإشارة إلى دراسة سينشرها مشروع «كلمة» قريباً، تتعلق بالعربي في السرديات القصصية في أميركا اللاتينية. وهنا أود إضافة أننا أفضنا في الحديث عن تأثير «ألف ليلة وليلة»، و «كليلة ودمنة» في هذا الأدب، والأكيد هو أن القواسم الحياتية المشتركة هي الأرضية الصلبة لهذا الولع. أما سر الولع بهذا الأدب في العالم كله، فلكل أسبابه ومنها ما ذكرناه في شأن المنطقة العربية، ومنها ما يتعلق بالعالم الغربي الذي يرى في هذا السرد القصصي نوعاً آخر من التجليات المختلفة للتأثير الأوروبي والأميركي في آداب العالم المختلفة مثلما رأوا ذلك في ديباجة منح نجيب محفوظ جائزة نوبل في الآداب. ترجم الطاهر مكي «ملحمة الذئب» إلى اللغة العربية، وهي أقدم نص أدبي كتب في اللغة القشتالية، وهي مجهولة المؤلف... لديكم رأي مغاير في هذه القضية؟ - للطاهر مكي مساهمات مهمة في الموروث التراثي الأندلسي، وقد تنوعت جهود هذا العلامة الذي تدِينُ له المكتبة العربية بالكثير الذي تمثل في الكتب المحققة والتأليف والدراسات المقارنة والترجمة، ومنها ترجمته لملحمة «السييد» EL CID وهذا المسمى أصبح اليوم قابلاً للتعديل وباعتراف ذلك العالم الجليل نفسه، إذ إن اللفظة الإسبانية هي نطق للفظة «الذيب». هذه واحدة، أما الثانية فتتمثل في صدور دراسة مطولة في كتاب من 650 صفحة لباحثة وأكاديمية إسبانية مخضرمة هي البروفيسورة دولورس أوليفر تتعلق بملحمة «الذيب»، وقد درستها على فرضيتين: أولاهما، أن الملحمة المكونة من 3700 بيت شعر غير المقفاة وغير منتظمة الأبحر العروضية وباللغة «الرومانث»، خلال القرن الثاني عشر، غير مجهولة المؤلف. أما الفرضية الثانية، فهي أن المؤلف يمكن أن يكون عربي الأصل، وقد أثبتت في دراستها هذين البعدين: أي أن للقصيدة الملحمية مؤلفاً وأن المؤلف عربي. وهي دراسة ستظهر قريباً من خلال مشروع «كلمة» (أبو ظبي)، ومن المعروف أن هذه القصيدة الملحمية ومعها رواية «دون كيخوته» للعظيم ثرفانتس، من عيون الأدب الإسباني منذ نشأته وحتى الآن. ولا يسعني في هذا المقام إلا أن أذكر أن بعض الباحثين الإسبان يرى أن الموروث التراثي الأدبي الأندلسي هو موروث إسباني غير أنه مكتوب بالعربية، وبالتالي لا يغيب عن أذهاننا احتفاء هؤلاء الشديد بابن زيدون وولادة بنت المستكفي وابن عربي وابن رشد.