مرت القراءة العربية للثقافة المكتوبة بالإسبانية بمراحل مهمة: بدأت بالعناية بما هو أندلسي، وهنا نجد أن الضوء مسلط فقط على الترجمة لهؤلاء الباحثين والكتاب الذين ينتصرون للثقافة العربية الإسلامية في الأندلس من المؤلفين الإسبان، مثل أمريكو كاسترو، أو من غيرهم من هؤلاء الذين عنوا بتلك الحقبة من أمثال دوزي أو ليفي بروفنسال أو الذين عنوا بدراسة أحوال الموريسكيين؛ ونتناسى أو نتجنب أصحاب الرأي الآخر مثل سانشيث البورنوث وخوسيه اورتيجا وخوليان مارياس؛ هذه الثلة التي تمثل في شكل أو آخر إسبانيا الأخرى التي ترى أن الإسهام العربي الإسلامي في الأندلس جرت المبالغة فيه وجرى غمط عناصر كثيرة، منها مساهمة العنصر المحلي في صناعة مسار الحضارة الأندلسية، والذي يتمثل في الإسهام الروماني والقوطي ومساهمة المستعربين الذين كانوا يعيشون في كنف الثقافة العربية الأندلسية. ومن هنا نلحظ أنه ظهرت في الآونة الأخيرة مصطلحات تميل إلى أخذ العنصر المحلي في الحسبان، ومنها «الثقافة الإسبانية الإسلامية»، بدلاً من «حضارة الأندلس»، أو «الحضارة الأندلسية»، تماماً مثلما يتحدث بعض الدارسين عن العمارة الإسلامية في مصر، أو الفن الإسلامي في مصر. تترتب على ذلك أمور عدة، منها أننا عندما نتذكر إسبانيا نتذكر فقط الأندلس، ولا نتذكر انه كانت هناك ممالك في الشمال أو في البرتغال وأنه كان هناك صراع، وبالتالي تكون رؤيتنا للتاريخ منقوصة. أضف إلى ذلك ثبات الرؤية وركونها إلى مرفأ الماضي والمكوث فيه والتغني به وبأمجاده، وبذلك نزيد من تناول هذا الدواء (التغني بالماضي) حتى نخفف عن أنفسنا آلام الصداع الناجمة من واقع معاصر مثير للجدل؛ كما تنسحب هذه الرؤية على عناصر أخرى نزيد من تكثيف الأضواء حولها، مثل محاكم التفتيش، الأمر الذي يساهم، ضمن أشياء أخرى في رؤية إسبانيا المعاصرة بصورة مشوهة. الإسبان اليوم هم غير إسبان الأمس، فهم أصحاب موروث ثقافي كان الموروث الأندلسي أحد أهم ملامحه في نظرنا، وهم الذين نقلوه إلى الأميركتين وساهموا بذلك في نشر جوانب من الثقافة العربية الأندلسية في العالم الجديد لتكون أولى الحلقات في ترحال مكونات هذه الثقافة والتي تلتها حلقات أخرى مثل تلك الشهيرة بأدب المهجر وما تلاها من موجات بشرية وثقافية ما زلنا نعيشها ونعيش حالة عدم الوعي بأنها امتداد نوعي وتفاعل مع ثقافات الشعوب الأخرى. أما بالنسبة إلى قراءتنا للأدب الإسباني القديم والمعاصر، فهذا أمر يحتاج إلى المزيد من التفصيل. وهذا يأخذنا إلى أن ننتقل إلى مرحلة أخرى من مراحل قراءتنا لتلك الثقافة المكتوبة بالإسبانية، ألا وهي ثقافة أميركا اللاتينية. من المؤكد أن البدايات الأولى للاحتكاك بثقافة العام الجديد في العصر الحديث تمثلت في أدب المهجر، سواء المكتوب بالعربية أو الإنكليزية أو الفرنسية ثم بالإسبانية بعد ذلك بوقت كبير. وكانت الرؤية النقدية الأساسية تنحو إلى النظر في ذلك الصنف من الإنتاج الفكري والإبداعي من منطلق تأثير البيئة الجديدة أو نشوء النبتات العربية في غير بيئتها بالمفهوم السياسي والاجتماعي والديني... تلت هذه المرحلة مرحلة أخرى سلطت الضوء فقط على هؤلاء الكتاب الذين حصلوا على جوائز عالمية أهمها جائزة نوبل للآداب، كبابلو نيرودا الذي حصل على الجائزة عام 1971. كان المناخ السياسي والاجتماعي في بعض البلدان العربية عاملاً هيأ الوضع لترجمة نيرودا من منطلق أنه شاعر ثائر وشعره هو شعر الالتزام الذي يعني، في أحد مفاهيمه الأولية، الدفاع عن المهمشين والمحرومين والوقوف ضد الظلم والطغيان، كما أن الأحداث التي وقعت في شيلي وأدت إلى سقوط الرئيس سلفادور الليندي وبداية نظام بينوتشيه، غذَّت هذه الصورة التي تكونت ولم تتزحزح قيد أنملة عما هي عليه إضافة إلى رؤية نقدية مماثلة وغير عميقة موجهة إلى عموم القراء وليس إلى المتخصصين. يمكن القول أيضاً إن حظ نيرودا كان مواتياً مقارنة بما حدث مع غابرييلا ميسترال، الفائزة بجائزة نوبل قبله بسنوات عدة (1946) فلا تكاد تحصل على نسبة ولو صغيرة من الانتشار سواء لحظة حصولها على الجائزة أو بعد ذلك كنوع من رسم صورة أوضح للقارئ العربي عن مسار الأدب في أميركا اللاتينية. تعتبر المرحلة الثالثة في باب التعرف على الإبداع الأدبي في أميركا اللاتينية الذي أطلقت عليه مسميات مختلفة منها «البوم» و «الطفرة» و «الواقعية السحرية» هي المرحلة الأكثر عناية بهذا الإبداع الأدبي في هذه المنطقة من العالم، وهنا يمكن أن نشير إلى بعض الملاحظات وهي: أنه تم التعرف على هذه التوجهات الجديدة في شكل غير مباشر في البداية، أي من خلال اللغة الإنكليزية والفرنسية؛ أن تعرفنا على هذه الظاهرة الأدبية بدأ متأخراً إذا نظرنا إلى البدايات الأولى لهذا الجيل العملاق في الستينات من القرن العشرين والتي توافقت مع الثورة الكوبية. وإذا نظرنا إلى التباشير الأولى من الترجمات إلى العربية والتي كان من أبرزها ترجمة «مئة عام من العزلة» لماركيز وإلى التأخر النسبي في حصول هذا الكاتب على جائزة نوبل (1982)؛ هناك ترجمات كثيرة وأكثر من ترجمة للعمل الواحد، غير أنها تفصح عن أن هذا الحقل من النشاط –الترجمة- لا يزال يعاني القصور العام من حيث غيبة معايير الاختيار وكذا المترجم المؤهل في شكل جيد، سواء مهنياً أو من حيث المعرفة بالصورة البانورامية لهذه المدرسة الأدبية الجديدة، أي أن الترجمة في بلادنا ما زالت مسألة «أكل عيش»، وليست أداة وعنصراً من عناصر نهضة الأمم؛ غياب ترجمة الأعمال الكبرى من هذه الإبداعات أو تأخرها في الظهور؛ عدم العناية بجوانب أخرى من «البوم» (ذلك المسمى الذي يراه بعض النقاد مواتياً للغاية حيث أن الانفجار الإبداعي يؤدي إلى انتشار الشظايا الابداعية لتكوِّن اتجاهات مختلفة)؛ انصب الاهتمام في الترجمة على الأعمال المتعلقة بشخصية الطاغية السياسي والظلم الاجتماعي؛ إهمال جوانب أخرى مثل الأعمال الابداعية التي نرى فيها الكثير من تقنيات السرد القصصي؛ العناية الفائقة بما هو سحري، بخاصة ما يتعلق بتأثير «ألف ليلة وليلة» و «كليلة ودمنه»، وكأننا بذلك أدركنا جوهر هذه التوجهات وفرحنا بتأثيرنا فيها وكفى الله المؤمنين شر القتال؛ أن الرؤية النقدية العربية لهذا التوجه تركزت على السحرية والواقع، وكذا على ملامح «الواقعية السحرية في الرواية العربية». وهنا نتساءل: هل أدى ذلك إلى وصف بعض هذه الروايات بالعالمية؟ وفي النهاية نقول إن المكتبة العربية لا تتوافر كفاية على أعمال نقدية مترجمة نعرف من خلالها كيف يرون أنفسهم وكيف يراهم النقاد في العالم. وبعيداً من هذا التوجه الابداعي، نجد أن المكتبة العربية تكاد تخلو أيضاً من أي مؤلفات تتناول الحضارات القديمة لهذه البلدان وواقعها المعاصر وتوجهاتها الفكرية. فاللغة الإسبانية هي لغة يتحدث بها اليوم ما يقرب من خمسمئة مليون نسمة في أكثر من عشرين بلداً، حققت الكثير وما زالت ونشطت في مجالات فكرية، لكننا نصر على الجانب الإبداعي فقط وفي شكل منقوص في هذا المقام، ثم نلوك العبارة القائلة بأنهم مثلنا. لقد استمرأنا العيش في الماضي، أو استمرأه الكثير منا، فهل آن الأوان لنغير من اتجاهاتنا؟ وختاماً، نشهد الأدباء الشبان من أميركا اللاتينية وقد ثاروا على «البوم» والواقعية السحرية؛ أي أرادوا أن يتخذوا منحى ابداعياً آخر، لكننا ما زلنا نصر على عدم مغادرة لحظة معينة.