تبقى قضية تجديد التراث، ومحاولات إصلاح الخطاب الديني من القضايا التي تثير قريحة المفكرين والمثقفين، عطفاً على الأكاديميين، وأصحاب الاختصاص في العالم العربي. في هذا الإطار، صدر حديثاً كتاب لمؤلفه الدكتور شحاته صيام الكاتب والباحث والمفكر والأستاذ بكلية الآداب جامعة الفيوم في جنوب مصر. ولعل المرء يتساءل... لماذا مثل هذا العمل في هذا التوقيت؟ يؤكد الدكتور شحاته صيام أنه قد آن الأوان أن تكون الرؤية الكونية للإنسان رؤية عقلانية، وتبتعد كل البعد عن العقلانية الأداتية والضيقة، بهدف تحقيق الإنسانية بطريقة كلية وشاملة، وتخليص البشرية من أدرانها وتناقضاتها وتوجهها إلى السماء ووفق كل إشكاليات الأرض، وهو ما يكفل باضطلاع العقل والأخلاق بأدوارهما، ناهيك بتحقيق التجدد في خطاب الإنسانية. هل يحل هذا المسلك واحدة من القضايا المعقدة في عالمنا العربي والإسلامي؟ هذا ما يشير إليه المؤلف وعنده أنه بهذا لن تتخاصم مرحلة ما بعد العلمانية مع الدين، وبالتالي لن يسعى الأخير إلى إنهاء وجود الأول، فالضدية لا تعني أفول الدين أو حتى غياب العقل. فإذا كانت العلمانية تحاول تلوين منطق الحياة بلون دنيوي، دون سلب لقيم الدين أو وجوده، فإن ما بعد العلمانية تسعى إلى إعادة الدين مرة أخرى، وذلك لتكريس الروحانيات والقيم الأخلاقية الإنسانية التي تشجع على سيادة السلام، والتسامح واحترام الآخر وتوطين الحرية. في مقدمة كتابه، يستشهد الدكتور شحاته بمقولة للمفكر المصري الكبير الدكتور حسن حنفي تتصل بالتراث وقضاياه، وفيها يقول: «إن التراث بأصوله وفروعه لا يمكن التوكؤ عليه في هذا الوقت، وهو ما يفرض ضرورة إعادة إنتاجه وتوظيفه في إطار الواقع المعاش». في هذا السياق، يلفت شحاته إلى إشكالية العقل الفقهي الذي بات أداة عقلية تعمل على تكريس التصلب أي الغوص في أعماق الدوغماتية، ولعل استدعاء النصوص من زمانها لتطبيقها على الأحداث الواقعية دون مراعاة مناسبتها لخير دليل. لذلك فإن التسلط على المجتمع باسم الله وسيادة الصرامة والجمود لأصول الفقه، والالتزام بحرفية النص وقياس الحاضر على ما كان تاريخياً، عملت على تعطيل الإبداع وتحريم التجديد، ناهيك بجعل المجتمع الإسلامي يستبطن الشريعة الإسلامية ويتماهى معها، الأمر الذي جعل كلام الفقهاء هو الموجه لتصريف وقضاء كل شيء. ما هي إشكالية الخطاب السلفي الذي يعمل مؤلف الكتاب على حل شيفراته والوصول لأدوية ناجعة لأزماته؟ عنده أنه لما كان الخطاب السلفي محكوماً بحدود ومعايير طبيعية مشار إليه وجوداً ومن خلال الضوابط التي يتسلح بها، فإنه ينصب ذاته أميناً على النص المقدس ويحتكر المعاني والدلالات والتفسيرات، وينغمس في البحث عن المألوف والواضح والمنقول، ولا يوافق على وجود المختلف، ويقف نداً، ضد البحث في المسكوت عنه، أو فيما هو قابع تحت السطح، ذلك ما يجعل العقل الفقهي مسكوناً بحب النقل والتشدد ورافضاً لقانون نسبية الحقيقة، ومن ثم عدم الإيمان بقدرة الإنسان على تشكيل الواقع وتحقيق المصلحة. إن التثبت بالأصول، ومنحها القدرة على الفعل والصلاحية، يجعلان من المرجعية النصية أساساً لسند التأويل كما يكون التأويل هو سند لتسييد أحكام النص. النموذج الجديد للإسلام الذي يتحدث عنه الدكتور شحاته هو النموذج الذي يسعى- وفق تعبير ماكس فيبر - إلى إزاحة الأساطير، ذلك أنه من جهة يكون في إطار ما يسمى بما بعد الدين، ذلك المفهوم الذي يحمل دلالة إيجابية نحو القيم الدينية وعدم إزاحتها أو تقليص الانحراف الروحي الذي اتشحت به الإنسانية بعد طغيان الذرائعية التي أبعدت الدين عن خدمة الإنسان. إن البعد عن تكاليف الماضي يجعل الدين للإنسان بقدر ما يكون الإنسان للدين، وهو ما يحقق وجودياً عملية تحقيق الإيمان التي من خلالها يقاس مدى إنسانية الدين في تحقيق إشباعات الإنسان على جميع الأصعدة. ما الذي جرى للمجتمعات الإسلامية طوال قرون عديدة فائتة؟ في واقع الحال إنها عرفت نوعاً من أنواع هيمنة الخطاب الأصولي على كل المحافل والمنتديات، بل والمؤسسات، وهو ما ساعدها في التحصن بالمواقع الإيمانية والتراثية المرتبطة بالتراث المتشدد، وفي ظل هذا التمترس الأصولي تبزغ دعاوى متعددة تنادي بضرورة تفعيل المناهج الحديثة، لتخليص التأويلات البشرية مما علق بالنصوص من أساطير عملت على إيقاف التاريخ، والدعوة لوضع نتف من التراث أو حتى النصوص برمتها على محك الفحص النقدي والتاريخي، للتخلص من التعالقات اللاهوتية وفتح الأبواب أمام المحاججة البيانية والكلامية، لتفكيك المنظومة التراثية، عبر تقديم نقد نوعي وفهم جديد يتماشى مع طبيعة الدين والتحولات التي تشهدها المجتمعات الإسلامية. ... كيف الوصول إلى ذلك إذاً وبأية آليات؟ يؤكد شحاته على أنه حتى يتم ما سبق ولدحض سيطرة الأفكار الثيولوجية والثيوقراطية، وفك أسار الإنسان من التقليدية، وترشيد قواعد السلوك الاجتماعي وتحرره من الاستلاب، فإنه حري أن يتم تقديم قراءة جديدة للنص الديني، ووجود تأويلات مختلفة، ومخالفة لما قدمه حراس النصوص لكي تتوافق مع الظرف الآني المعاش، وبما يضمن مخاصمة رجال الدين وخروجهم من دائرة حياة الناس، والعمل وفق أحكام العقل. أو بكلام آخر، أنه آن الأوان أن يفكر الإنسان بعقله لا بكلام الفقهاء، أو تأويلهم للنصوص، ودفع المجتمع إلى العلمنة، وجعل الأفراد يتفكرون وينظرون ويتدبرون في شؤون العالم من خلال تأطير العقل العلماني. هل هي دعوة لتعديل المقلوب عن وضعه إذاً؟ بالقطع هي كذلك، والداعون لذلك يسعون إلى تجديد الفضاء الثقافي والأخلاقي من خلال الارتداد عن المنظومة الفقهية السائدة، بل والبعد عنها تماماً، حتى تتأسى فلسفة جديدة في الدين، تخاصم كومة الفقه السائدة، لإيجاد أصول جديدة تتناسب مع طبيعة التطور والتغير الحادثين في الواقع المعاش. وحتى يحدث ذلك، فإنهم يدعون بقوة إلى ضرورة فتح الاجتهاد من خلال التوكؤ على مفهوم المقاصد والمصالح والمغزى والروح والجوهر والضمير والوجدان والأخلاق، تلك التي تطرحها العلمانية كآلية لإقصاء الدين عن الدنيا. وحيث إن مفهوم المقاصد في فضاء المجتمعات الإنسانية يعمل على إعادة الروابط بين الخطاب الشرعي والأفعال الإنسانية، ولجلب المصلحة ودرءاً للمفسدة، فإنه يكون في الوقت عينه تجاوزاً للشروحات السطحية والنقل المباشر من النصوص، والبعد عن القياسات غير المتناسبة مع ظروف الواقع المعيشي، فضلاً عن الكشف عن الدلالات واستنباط المعاني الجديدة وتوسيع مساحات النص. هل نحن بصدد ثورة أخلاقية وقيمية لتخطي ما هو قائم ومن ثم الخروج على التاريخ عبر دحض الاستنادات والمفاهيم التي لا تتناسب مع الواقع المعيشي؟ ان تبيئة الدين، أي جعله متسقاً مع البيئة المحيطة ومع ما يتناسب مع المعيش، يجعلنا بصدد قياس المناسب مع الواقع، ذلك الذي يجعلنا أمام نص للوجود يتفارق مع النص الديني. وإذا كان ما سبق يمثل ما يسمى بالوعي الإسلامي الجديد الذي يسعى إلى إيجاد إصلاح ديني يستند إلى رؤية مغايرة للإسلام الأصولي المهيمن، ليكون بديلاً عنه، فإنه من الأهمية بمكان أن نعي أنه يستند على روحانية جديدة تتساوق مع قيم الانفتاح على الآخر والمساواة والتسامح وحرية الفكر والدين وحقوق الغير، تلك التي تجعلنا أمام تأويلات مغايرة للمعنى الظاهر للنص، أو قل أنها دلالات عرفانية جديدة تعزز من القيم الأخلاقية والإنسانية التي تمنع حدوث الصراعات ونبذ الآخر. ووفق ذلك، فإنه بات من الضروري أن نفكك الخطاب الفقهي، بما يفرض الكشف عن طبيعة علاقة النص بالمتلقي من ناحية وما عرفه الزمن من مطبات فكرية سواء على صعيد الفهم أو التحقق، من ناحية اخرى، تلك التي يعكسها وجود التضاربات في الخطابات والصراعات بين الفرق المختلفة، التي يحاول كل منها الانفراد بقراءاته الخاصة، وإقصاء المخالف بحقيقة ونهائية تأويلاته وقياساته. ووفق الإشكالية الفقهية والمعرفية التي يثيرها الكتاب الصادر عن «دار روافد للنشر والتوزيع» في القاهرة، ويقع في أكثر من ثلاثمائة صفحة من القطع الصغير في سبعة فصول، فقد جاء الفصل الأول ليناقش تتبع ظاهرة الدين منذ أن وطأت أقدام الإنسان على الأرض، فيما الفصل الثاني اهتم بتتبع محاولات تجديد الدين، والجدل والأفكار التي قدمها المفكرين بغية إنهاء حالة الجمود والتطرف الذي أغلق باب الاجتهاد. الفصل الثالث يحاول رصد محاولات الإسلاميين الجدد الذين حاولوا إخضاع التراث الفقهي برمته لأدوات التحليل النظري والمنهجي، فيما الفصل الرابع قدم لإحدى التجارب المهمة في مشروع التجديد تلك التي حاولت أن تفصل بين مفهوم الدولة الإسلامية والحكم الإسلامي. يتوقف المؤلف لرصد الظروف المجتمعية التي ساهمت في استدعاء الدين مرة أخرى في الفضاء العام، وذلك في الفصل الخامس، ويكشف عن الدعاوى الجديدة التي تنادي بضرورة تعديل ما فشلت فيه الحداثة في الفصل السادس. وباعتبار أن ما بعد العلمانية تضع ضمن أولوياتها أهمية تأسيس مجتمع المواطنة، فإن الفصل الأخير يعمل على إثارة الجدل المرتبط بمفاهيم المواطنة والتواصل العقلاني، تلك التي من خلالها يتم نبذ العنف وبناء الكل العالمي الذي يتخلق بدين الإنسانية.