من ناحية مبدئية ارتبط اسم الفيلسوف والكاتب الفرنسي فولتير بالإلحاد إضافة الى ارتباطه بالتنوير والمشاكسة كما بسعة المعارف والنهل من كل الميادين. لكن فولتير الذي عاش فترة طويلة من الزمن وكتب خلال القسم الأعظم من سنوات حياته عدداً كبيراً من الكتب والدراسات الفلسفية والأدبية والتاريخية وشغل عقوداً طويلة من القرن الثامن عشر اضافة الى انه اعتبر دائماً من المفكرين الكبار الذين مهدوا، فكرياً على الأقل لمجيء الثورة الفرنسية حتى من دون ان يصل الأمر الى حد اعتباره صاحب اية مسؤولية عن فظاعات هذه الثورة، فولتير هذا لم يكن بأي حال من الأحوال دائماً ملحداً، كما انه لم يكن دائماً مشاكساً ولا تنويرياً... ويمكن أن نواصل لنقول انه لم يكن دائماً على حق. لكن المرات التي كان على حق فيها كانت أساسية في مسار حياته وفي مسار الفكر الإنساني. بل ان بعض عارفي فولتير في شكل عرضي قد يدهشون إذ يعرفون ان فولتير أوصى عند نهاية حياته ببناء كنيسة في قريته غير بعيد من الحدود السويسرية – الفرنسية. غير أن هؤلاء وغيرهم سيدهشون أكثر وأكثر وربما استهجن بعضهم إذ يقرأون مسرحية له غير معروفة في شكل واضح كما انها قليلاً ما كانت تطبع او يجرى الحديث عنها، ونعني بهذا الكلام مسرحيته المعنونة «السير، أو الأميركيون». والحقيقة التي لا بد من ان نبدأ بها حديثنا عن هذه المسرحية التي كتبها فولتير وهو في منتصف سنوات حياته، هي انها تكاد تكون من جانب فولتير، دعوة صريحة الى الإيمان والى التمسك بفضائل الدين، «شرط ألا يتحول الدين، في رأي الكاتب، الى عصبية قاتلة وألا يستخدم من قبل ممارسيه وسيلةً لاستبعاد الآخرين والإساءة إليهم». ومن الصعب القول ان هذا النوع من الفكر شغل عقل فولتير دائماً... صحيح انه كان على الدوام ضد التعصب، لكن خلال فترة كبيرة من حياته وفي عدد كبير من كتبه كان ينظر الى الأديان على انها «بؤرة التعصب». أما هنا في هذه المسرحية فمن الواضح انه كان ينظر الى الأمر غير تلك النظرة ويحاول أن يرى في الدين جوانبه الإيجابية، التي سيقول خلال تلك الفترة الحاسمة من حياته انها هي جوهر الدين والباقي عارض من صنع البشر أصحاب المصالح الذين اعتادوا ان يسخّروا الدين لمصالحهم... والدين منهم براء. وهو كما نعرف اليوم من نوع الكلام الذي كثيراً ما نسمعه يتردد في أزماننا هذه، لا سيما على ألسنة المدافعين الحقيقيين عن الإيمان الديني. كتب فولتير مسرحية «الأميركيون» هذه عام 1736، وكان بالكاد تجاوز الأربعين من عمره، وهو استند في كتابتها الى قراءة بعض تواريخ الأحداث والثورات في أميركا اللاتينية التي كان معظمها لا يزال في ذلك الحين خاضعاً للاحتلال الإسباني. وكان الإسبان لا يزالون يضطهدون السكان الأصليين الذين كان فولتير - وغيره من المفكرين - يرى فيهم أصحاب حضارة عظيمة ومبادئ أخلاقية راقية. ومن هنا جعل فولتير أحداث مسرحيته هذه تدور في ليما عاصمة البيرو، وفي زمن كانت هذه المنطقة من أميركا الجنوبية تعرف أحداثاً ساخنة تتمثل في ثورة تشن ضد الحكم الإسباني المتمثل في قائد عسكري طاغية يحكم بالنار والحديد والقمع كما يحكم باسم الدين. حين تبدأ المسرحية يكون شعب البيرو في صدد محاولة ثورية جديدة للحصول على حريته وعلى استقلاله بقيادة الزعيم الثوري تسامورا، الذي يخوض احدى المعارك ضد السلطات، ويقال على اثر هزيمة تسامورا في تلك المحاولة الثورية المشروعة، انه قتل ويختفي من الساحة السياسية. وإزاء هذا الحدث الجلل تجد خطيبته وحبيبته السير، وهي من سكان البلد الأصليين، نفسها مجبرة على «نسيان» ماضيها واعتناق الدين المسيحي، دين الحكام، وكذلك الزواج بغوسمان، الحاكم الطاغية ذي النزعات الهمجية، والذي حل في الحكم محل أبيه الحكيم ألفاريس، الذي عرف برجاحة عقله ورفعة أخلاقه. ولكن فيما كان عرس الطاغية على الحسناء في أوج التحضير يعود تسامورا الى الظهور من دون أن يتوقع أحد ذلك. وإذ يعلم تسامورا بمصير حبيبته يرتب على الفور ومع مجموعة من رفاقه وأعوانه المقربين، مؤامرة تطيح غوسمان. ويتسلم الحكم من جديد ألفاريس، الذي كان تسامورا قد سبق له أن أنقذ حياته في الماضي. وانطلاقاً من هنا يتردد الحاكم الكهل اذ يجد لزاماً عليه وفي تطابق مع القوانين السارية معاقبة الثائر. انه يتأرجح على اية حال بين مشاعره كأب جرحه مقتل ابنه، حتى ولو كان حاكماً طاغية، وبين شعوره بالامتنان إزاء شخص كان قد سبق له أن أنقذه. لكن الذي يحدث هنا هو أن غوسمان نفسه فيما يكون محتضراً على وشك ان يلفظ أنفاسه الأخيرة يعترف بما اقترفه من أخطاء ويطلب المغفرة، بل أكثر من هذا، انه يعلن مسامحته لقاتله تسامورا، ويصل في غفرانه الى حد ان يعهد اليه بألسير نفسها وبحكم البلاد. ومنذ ذلك يفهم تسامورا - وهنا يكمن بيت القصيد بالنسبة الى فولتير بالطبع - «عظمة هذا الدين المسيحي الذي يعلّم معتنقيه مبادئ التسامح والمغفرة، حتى إزاء أعدائهم والمسيئين اليهم»، ولا يكون من شأنه إذ يدرك هذا من خلال مثال حيّ يشكل هو جزءاً منه إلا أن يقدم هو الآخر على اعتناق المسيحية. أما ألسير التي تشعر بالقلق إزاء هذه الأحداث كلها، فإنها لا تلبث أن تنضم الى حبيبها معتنقة دينه الجديد هذه المرة عن اقتناع لا عن خوف وقمع، مدركة انها بهذا يمكنها، أخيراً، ان تحسن من أوضاع شعبها. وهكذا تنتهي هذه المسرحية الغريبة نهاية وعظية، من الصعب في بعض الأحيان تصديق ان فولتير هو كاتبها. والحال ان فولتير، الذي شاء هنا أن يتبع كورناي في أسلوبه المسرحي القائم عادة على تحليل العواطف، قدم هنا عملاً تتضارب فيه الأهواء والقيم أكثر مما تتضارب الأفكار والمبادئ. ولقد فهم هذا العمل دائماً على هذا النحو، بصرف النظر عن بعده الوعظي، أو عن بعده الديني الذي كان عارضاً في مسار فولتير على أي حال. وهذا العمل، الذي حول مرات عدة الى عمل أوبرالي، يحتل مكانة على حدة في كتابات فولتير (فرانسوا ماري - آرويه 1694 - 1778)، على رغم ان هذا الأخير كتب الكثير من المسرحيات والروايات. ومن أعمال فولتير الكبرى «القاموس الفلسفي» و «زادنغ» و «كانديه» و «التعصب» و «رسائل فلسفية»... الخ. [email protected]