حين تمت الوحدة الألمانية قبل خمسة وعشرين سنة ظهرت أصوات عديدة تحذر من «المارد» الألماني الذي يمكن أن يخرج من قمقمه. لكن فرنساوبريطانيا كانتا في أفضل أيامهما وقادرتان على تسيير الاتحاد الأوروبي طبقاً لما تريدانه فيما كانت جمهورية ألمانيا الاتحادية السابقة، أي ألمانيا الغربية، توقّع على كل ما يُطبخ ويشوى داخل الاتحاد تقريباً من دون نقاش أو اعتراضات فعلية. وكان دورها حتى الوحدة الألمانية اقتصادياً بحتاً مبتعدة قصداً، وعن سابق تصور وتصميم، عن العمل السياسي الأوروبي والدولي للأسباب المعروفة الناجمة عن الحربين العالميتين اللتين تتحمل برلين المسؤولية عنهما في النصف الأول من القرن الماضي. وبعد اتمام الوحدة الألمانية عام 1990 أكدت ألمانيا الجديدة داخل الاتحاد الأوروبي مراراً وتكراراً، وعلى لسان معظم سياسييها، أنها لا تفكر أبداً في لعب دور قيادي في أوروبا، وأنها تعرف أن وجودها داخل هيكليات العائلة الأوروبية هو ضمانة أكيدة لها كي لا تجنح هي أو بعض مكوناتها السياسية والاجتماعية إلى جنون العظمة من جديد، وأن تركيزها الأكبر سيبقى على الاقتصاد. وقررت حكوماتها المتعاقبة توسيع دورها في تقديم المساعدات الإنمائية والمعرفية إلى دول العالم الثالث في مختلف أنحاء العالم مع إبقاء دورها العسكري مهمشاً حتى اليوم عديداً وعتاداً. وكانت الرغبة الألمانية الرسمية هذه العاكسة لمواقف مختلف الأحزاب الحاكمة، أو المشاركة في الحكم، أو حتى المعارضة في البرلمان وخارجه خلال الربع القرن الماضي، صادقة بالفعل من خلال مراقبتي الشخصية لهذا المسار منذ وجودي في هذا البلد طوال الفترة المذكورة. هذا لا ينفي بالطبع وجود رؤوس حامية هنا وهناك، ونازيين متجددين يحلمون بأمجاد الماضي، لكن درس الحربين العالميتين المدمر، لا المحرقة وحدها، لا يزال ماثلاً أمام الألمان، والجيل الجديد فيه أوروبي وعالمي بامتياز أكثر من أي وقت مضى على رغم الحركات النازية القائمة والمعادية للأجانب والمسلمين مثل «بيغيدا» و «حزب البديل من أجل ألمانيا» و «الحزب القومي الألماني». هذه الحركات موجودة أيضاً في دول أوروبية أخرى وتلعب دورًا سياسياً أكبر حالياً كما نلمس في فرنسا مع حزب «الجبهة الوطنية» الذي تتزعمه مارين لوبان التي تهيء نفسها لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة بعد النجاحات الانتخابية المحلية التي حققتها. واكتفت ألمانيا بلعب دورها الاقتصادي إلى جانب فرنسا حيث اشتهرا بأنهما قاطرة النمو في دول الاتحاد الأوروبي، وبعد ذلك في منطقة اليورو، تاركة القرار السياسي لفرنسا في الدرجة الأولى وبالتنسيق معها. وإذا كانت ألمانيا بدأت منذ تفجر الأزمة الاقتصادية والمالية الأوروبية عام 2009 تلعب عقب اندلاع الأزمة المالية الأميركية عام 2008 دوراً سياسياً متزايداً في القارة فلا يعود السبب إلى «الطموح» الألماني و»استغلاله» الظرف المواتي له، بقدر ما هو انعكاس لتراجع دور فرنسا سياسياً إلى جانب تراجعها الاقتصادي كذلك. والسبب هو ضعف كبير على مستوى أداء الرئيس فرانسوا هولاند وحكومته بدأ بالبروز في عهد الرئيس نيكولا ساركوزي أيضاً، وعجزهما عن ملء دور الرئاسة والحكم داخلياً وأوروبياً مثل أسلافهما، بل وغياب أية استراتيجية سياسية واضحة المعالم في قصر الأليزيه وغلبة المسائل الشخصية والخاصة عليها. وبسبب غياب الإصلاحات الاقتصادية والهيكلية في فرنسا على مدى السنين السابقة، بما في ذلك عهد الرئيس ساركوزي فات الاقتصاد الفرنسي قطار الإصلاح والتحديث وخفض النفقات غير المنتجة، فأصبحت فرنسا الرجل المريض لتحل محلها ألمانيا التي كانت قد تعافت من المرض عقب الإصلاحات البنيوية التي أقرها المستشار الاشتراكي الألماني غيرهارد شرودر في عام 2005، وعُرفت ب «روزنامة 2010» وشكلت له قطيعة مع جناح اليسار في حزبه، ما كلفه خسارة الحكم في السنة ذاتها لمصلحة غريمته مركل. وأدت هذه الإصلاحات فعلياً إلى «الأعجوبة الاقتصادية الثانية» التي تشهدها ألمانيا منذ بضعة أعوام بشهادة كل الخبراء والاقتصاديين تقريباً. وكان حزب المستشارة أنغلا مركل الديمقراطي المسيحي المستفيد الأول شعبياً وانتخابياً من النتائج الإيجابية للروزنامة على اقتصاد البلاد وازدهاره فيما لا تزال معظم دول اليورو الكبرى مثل إيطاليا وإسبانيا (ثالث ورابع اقتصاد أوروبي) متعثرة، من دون الإشارة إلى وضع اليونان الكارثي حكومياً وشعبياً. لذا فإن الضعف هنا لا يشمل فرنسا فقط، ومن الواضح أن من يفقد توازنه الاقتصادي يفقد قدرته على رسم السياسات وتحديدها. يضاف إلى ذلك أخيراً قرار بريطانيا بالخروج من الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي يترك فراغاً سياسياً كبيراً داخل الاتحاد. وواقع الأمر أن المستشارة مركل تدرك جيداً، بخاصة أنها من حيث تكوينها ليست سياسية جامحة نحو القبض على زمام الأمور والدفع إلى الأمام مثل سابقها المستشار هلموت كول، بل تفضّل الترقّب، والتمحّص، والفحص، والاستماع إلى آراء الأخرين قبل اتخاذ أي قرار. وبالطبع كانت مركل تفضل بقاء بريطانيا داخل الاتحاد، وهي خسرت الآن شريكاً غالباً ما كان يدعم مواقفها المؤيدة لنهج التقشف الاقتصادي المختلف عليه وتنفيذ إصلاحات بنيوية. لذا تجد مركل نفسها وحيدة الآن في ما يتعلق بقدرتها على التحرك داخل الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو. وهي تعرف وتلمس لمس اليد أنها إن لم تبادر وتقترح وتقدم الحلول المطلوبة فلن يفعل أحد ذلك، وأثبت الرئيس الفرنسي هولاند أنه لأسباب مختلفة بعيد كل البعد عن ذلك، وهو يساير مركل في بعض الأحيان، لكن الاجتماعات الثنائية التقليدية بينهما التي تذكّر الجميع بأنهما قاطرة سياسية واقتصادية لأوروبا غالباً ما تنتهي من دون نتائج. صحيح أن بعض المراقبين والمحللين الألمان يرون أن خروج بريطانيا يغير موازين القوى داخل الأسرة الأوروبية، ويفرض على مركل البروز أكثر للعب دور قيادي أكبر. ألا أن محللين آخرين يعتقدون بأن هذا الأمر لا يتعارض فقط مع طبيعة المستشارة الألمانية، بل ومع اقتناع ضمني لديها بمعادلة متفق عليها ألمانياً حتى اليوم تتمثّل في المحاذير النفسية لعودة ألمانيا إلى لعب دور قيادي من جديد، ومواجهة الانتقاد القديم - الجديد بأن الألمان يملون إرادتهم على الدول الأخرى كما جرى الترويج له قبل استفتاء الخروج في بريطانيا. وأول من سيحذر من هذا الاتجاه ويعارضه سيكون الحزب الاشتراكي الديموقراطي المشارك في حكومة مركل. إن الخوف من تخوف الأوروبيين من خروج المارد من قمقمه لا يزال كبيراً، وكذلك الاستنتاج بأن ما حذّر منه الجميع قبل الوحدة الألمانية أصبح الآن واقعاً. وفي اعتقادي المبني على ما سبق، وعلى مسائل أخرى لا مكان لذكرها، فإن خطوة كهذه لن تتخذها مركل. وهي ستظل تراهن على دور ثنائي مع فرنسا تعطي فيه الأولوية لباريس، وإن كان وزن برلين تجاوز حالياً وزن العاصمة الفرنسية، أو على دور ثلاثي يضم إيطاليا تتوزع فيه المسؤوليات في ظل مكانة ألمانية أكبر. ومع ذلك، إن رغبنا أو لم نرغب فإن التساؤل أصبح مطروحاً على طاولة النقاش، وسببه الأول ليس قوة ألمانيا كما سبق وذكرت، وإنما ضعف الآخرين. وبرز هذا الأمر عندما اتخذت مركل قرارها «التاريخي» بفتح الحدود أمام اللاجئين بمعزل عن رفض هولاند وغيره متكئة على شعبية واسعة في بلدها، وكذلك الحل الذي وضعته مع تركيا لخفض الهجرة إلى أوروبا وأوكلت تنفيذه إلى المفوضية الأوروبية ونجح في الصمود حتى الآن.