وضع البريطانيون حداً لسنوات من «التشكيك» بالاتحاد الأوروبي وسجالات رافقت تحفظهم عن تعميق أواصر الوحدة تجسدت برفضهم اعتماد العملة المشتركة أو الانضمام إلى معاهدة حرية التنقل في ما يعرف ب «فضاء شنغن». وحسم الاستفتاء التاريخي في المملكة المتحدة النتيجة لمصلحة الانسحاب بنسبة 52 في المئة في مقابل 48 في المئة صوتوا للبقاء، وذلك مع مشاركة تاريخية للناخبين ناهزت ال72 في المئة. وبعد اعلان النتائج ومشاورات بين القادة الاوروبيين الذين سيعقدون قمة الاسبوع المقبل من دون حضور بريطاني، حض رئيس المجلس الاوروبي دونالد تاسك بريطانيا على بدء «اجراءات» الطلاق كي لا يتأثر الاتحاد سلباً. (راجع ص7) نتيجة الاستفتاء لم تشكل فقط «ضربة موجهة إلى أوروبا»، كما اعتبرتها المستشارة الألمانية أنغيلا مركل، بل أيضاً شكلت هزة قوية لتماسك المملكة المتحدة التي بدأت تترنح مع تجدد مطالبة الإسكتلنديين والإرلنديين بتقرير مصيرهم (الاستقلال) بعيداً من بريطانيا بعدما اختارت الأخيرة مستقبلها بعيداً من أوروبا. وفور ظهور النتيجة أمس، رجحت رئيسة الحكومة المحلية الاسكتلندية نيكولا ستيرجن الدعوة «في غضون بضعة أشهر»، إلى استفتاء حول استقلال اسكتلندا التي صوتت غالبية سكانها لمصلحة البقاء في الاتحاد الأوروبي، فيما علت أصوات في إرلندا الشمالية تطالب باستفتاء حول انضمامها إلى الجمهورية الإرلندية جنوباً، الأمر الذي قد يعيد احياء الصراع التاريخي في الإقليم التابع لبريطانيا. وفاقمت حدة الموقف في إرلندا أن الخروج من الاتحاد الأوروبي يستدعي عودة الحدود بين إرلندا الشمالية باعتبارها تابعة للمملكة المتحدة والجمهورية الإرلندية العضو في الاتحاد، ما يقيد حرية تنقل آلاف السكان بين الشطرين، ويعيد مشاعر الاستياء من واقع تقسيمي، خصوصاً لدى الجالية الكاثوليكية في المقاطعة الشمالية. ويعقد الانسحاب العلاقات مع إسبانيا، التي قد تفكر في غلق حدودها مع جبل طارق، الصخرة الكبيرة التي تبلغ مساحتها 6 كيلومترات مربعة والملاصقة للأندلس حيث يعيش 33 ألف بريطاني. وليست الصورة أكثر زهواً بالنسبة إلى أنحاء أخرى من أوروبا. وعلى رغم محاولات المسؤولين في بروكسيل التركيز على إيجابيات انسحاب بريطانيا باعتبار أنه ينتج «اتحاداً أقوى»، أبدت مجموعة من أعضاء البرلمان الأوروبي مخاوفها من سلسلة «انهيارات على طريقة أحجار الدومينو» تقوّض الاتحاد في غضون خمس سنوات، وذلك في ضوء ما أنتجه التصويت البريطاني من ضغوطات هائلة على حكومات السويد وإيطاليا وألمانيا وفرنسا لإجراء استفتاءات مماثلة. وأظهرت استطلاعات في تلك الدول أن نسبة مؤيدي الانسحاب من أوروبا مرشحة للتزايد بشكل مضطرد مع خروج بريطانيا، وثمة توقعات مماثلة بتنامي الضغوط المعادية للاتحاد في الدنمارك وهولندا. ولم يتأخر قادة اليمين المتطرف الأوروبي في استغلال قرار البريطانيين، إذ بادر كل من رئيسة «الجبهة الوطنية» الفرنسية مارين لوبن والنائبان الهولندي غيرت فيلدرز والإيطالي ماتيو سالفيني، بالدعوة إلى استفتاءات في بلادهم. ومع تقديم رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كامرون استقالة مؤجلة إلى حين انعقاد مؤتمر الحزب الحاكم في تشرين الأول (أكتوبر) المقبل، بدا أنه سيتعيّن على الشركاء الأوروبيين انتظار خليفة كامرون المحتمل، وهو سيكون على الأرجح عمدة لندن السابق بوريس جونسون، ليتولى قيادة المفاوضات على خروج بلاده من الاتحاد. ويتوقع أن تستمر مفاوضات الخروج سنتين بعد تفعيل المادة 50 من المعاهدة الأوروبية الموقعة في 2009. ويقتضي ذلك تقديم بريطانيا طلباً رسمياً يحال إلى القمة الأوروبية يحدد التوجهات التي تقود إلى اتفاق الانفصال بالتراضي. وإلى حين الانتهاء من ذلك، فان «المملكة المتحدة تظل عضوا في الاتحاد بكل ما يترتب على العضو من واجبات وحقوق وتظل القوانين الأوروبية سارية المفعول في بريطانيا بمقتضى المعاهدة الأوروبية التي وقعتها حكومتها»، كما أكد رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر أمس. وأضاف يونكر في نهاية اجتماع تقويمي في بروكسيل أمس: «نتوقع من المملكة المتحدة تقديم اقتراحاتها من أجل بناء شراكة وثيقة مع الاتحاد». وعقب الاجتماع، أصدر رئيسا البرلمان الأوروبي والمجلس الأوروبي مارتن شولتز ودونالد تاسك بياناً مشتركاً أشاروا فيه إلى أنهم ينتظرون الآن من الحكومة البريطانية «وضع قرار الشعب البريطاني موضع التطبيق في أقرب وقت ممكن». وأعربت بروكسيل بوضوح عن رغبتها في تفادي إطالة فترة عدم الاستقرار التي ستنجم عن المفاوضات. وستطرح المسالة خلال أول قمة أوروبية بعد الاستفتاء البريطاني تعقد في بروكسيل في 28 و29 الشهر الجاري. ويسبق القمة اجتماع في برلين لوزراء خارجية الدول الست المؤسسة للاتحاد، وهي ألمانيا وبلجيكا وفرنسا وإيطاليا ولوكسمبورغ وهولندا.