من يتأمل تاريخ تشجيع الفنون في فرنسا (مع إزدهارها الاستثنائي في عاصمة التشكيل العالمي باريس)، ينتبه إلى انبهار بكل ما يفِد من الخارج (مثل البوب الأميركي والإستامب الياباني) وأحياناً على حساب الفن الفرنسي! لنبدأ من عبقرية الموسيقي برليوز الذي هجر بلده وأصبح إنكليزياً بسبب عدم دقة تقويم تجديداته في «سيمفوني فانتازتيك» الأكثر مبيعاً وعزفاً وشعبية اليوم، تسترجعه فرنسا اليوم وتصر على أنه فرنسي لأسباب اقتصادية، وإذا كانت الانطباعية تمثل عالمياً مجد فرنسا في استشراف الحداثة والمعاصرة، فإن أغلب تراث فنانيها موجود بين أيدي أصحاب المجموعات الأميركية بسبب تأخر فهم الفرنسيين لهم، ظناً منهم بأنهم من مصوري المناظر المرتبكين. أما حجم الفضيحة الراهنة فهو أكبر لأنه مرتبط بإهمال أعظم مصور في فرنسا، وفي أسبانيا يعتبرونه أعظم مصور في تاريخ أوروبا وهو جورح دولاتور. تحول الإهمال إلى تظليل أهميته واعتباره ضمن قائمة المتأثرين بكارافاجيو. يذكر المعرض (في متحف برادو في مدريد) أن الناقد الأشهر ووزير الثقافة الديغولي والروائي أندريه مالرو دافع عن جورج دولاتور على منبر البرلمان يقول «إذا كان اتماء هذا الفنان إلى مجموعة الفرنسيين المتأثرين بكارافاجيو، فإن تفرده الأسلوبي أكبر من هذه القرابة». بقيت هذه الصورة أشبه بالبداهة في المعرض الاستعادي الأول في القصر الكبير في باريس الذي أقيم لأول مرة في عام 1997 وجذب نحو مليون من الزوار. مفوضا معرض مدريد ينتقدان معرض باريس وسطحيته في التحليل. ليس صدفة أن المعرض إبتدأ في إسبانيا، وينتظرونه في باريس (القصر الكبير) بفارغ الصبر فلأول مرة تجتمع لوحاته بهذه الكثافة: فمن أصل 46 لوحة، هناك 31 مثبتة مئة في المئة، مع ذلك فالباقي من دون شكل ينقص توقيعه بسبب وضوح أسرار أسلوبه المتمايز، المشرفان على المعرض وهما الكوميسير ديمتري سالمون والكوميسير أندريه عبيده أثبتا عن طريق الإختبار المخبري والجمالي أن جورج دولاتور لا علاقة له بكارافاجيو، لأنه أشد عبقرية بخاصة من الناحية الواقعية، ثم تفوقه على منهج كارافاجيو المعتمد على حدة الفرق بين الظل والنور، في حين أن شمعة دولاتور التي تتوسط مجموعاته الليلية تحول أصابع القديسين إلى نور على نور، وكذلك بقية الشخوص. ولا يقارن إلا بملك التصوير الهولندي رامبرانت. الإسبان يجدونه متفوقاً حتى على عباقرتهم، بما في ذلك فيلاسكيز وغويا. يعود الفضل في اكتشافه المتأخر إلى الإسبان فقد كانوا يظنوه زورباران، وتضاعف إعجابهم به مع تجميع لوحاته من شتى أنحاء العالم، هو معرض بالغ العناية والاكتمال وعمق الاختصاص بما يتفوق على المعرض الباريسي، يفسر فضل اكتشافهم له قبل الفرنسيين، كما قلنا، أن المعرض إبتدأ من مدريد وسينقل مباشرة بعد ذلك إلى باريس. ولد دولاتور عام 1593 في مقاطعة إمارة اللورين وبدأ نشاطه فيها مع أمير المنطقة عام 1610 وتوفي فيها عام 1650. يثبت المعرض بما يقطع دابر الشك أن فناننا لم يسافر لا إلى إيطاليا ولا سواها وأنه كان في أسلوبه يتقارب مع بعض حساسية الفنانين في الشمال. وذلك بسبب المصائب التي تتالت في فترته على اللورين من حرب أهلية إلى الطاعون، ثم الاحتلال الفرنسي عام 1632، قبل ضمها إلى الخريطة الوطنية، تعكس مجموعة من لوحاته بؤس هذه المراحل المديدة ونرى في المعرض مثلاً بعض لوحات العميان المشردين: امرأة ورجل يلتهمان بنهم المجاعة قصعات البازلاء بأرديتهم البالية والقذرة ووجوههم التعيسة. يثبت المعرض أن كمون تصوير فناننا الروحي يتفوق على مادية وحسية كارافاجيو. وقد استطاع المشرفون على السينوغرافيا أن يرتبوا المعرض بطريقة وقائعية تاريخية متدرجة تثبت تطوره الأسلوبي، يظهر تفوقه الواقعي على معاصريه إبتداء من لوحة: «القديس جاك عامل المنجم»، هي مجموعة بالغة العمق يبلغ عددها 13 قديساً مفقود بعضها. يحفظ متحف نيويورك أشهر لوحة لدولاتور تذكر بالمدرسة الهولندية بخاصة جان فيرمير، تمثل المتسابقين المراهنين تقودهم عجوز ثرثارة، بدرجات لونية خارقة تكشف ما خفي من خطرات ونظرات وإيماءات خرساء. يشتمل المعرض على لوحتين كل واحدة بارتفاع أقل من متر. هما زوجان من فلاحات اللورين، مع خصوصية التعبير وتوزيع الألوان لا يمت بأي صلة لكارافاجيو. استخدمتا في مسرح موليير في فرنسا لغنى حركاتهما الوجودية الساخرة وخصوبة الأزياء. أما اللوحات الليلية التي تتوسطها شمعة واحدة فتتفوق على شتى ميراثه من اللوحات، على رأسها لوحة القديس جوزيف النجار ثم سيدة تزور سجيناً ليلاً. ما أسعد الإسبان بهذه اللوحات التي لا تستنفذ أصالتها مع مراجعتها مرات ومرات.