تتحالف المتاحف الفرنسية من أجل إبراز مؤسسي التصّوير والنحت من معلمين كبار خلفوا ريادة فناني عصر النهضة الأيطالي، مما يفسّر العديد من تظاهرات المعارض البانورامية الكبرى مثل: «من جيوتو إلى كارافاجيو» و «رواد فناني الباروك». أما أبرزها فيمثله اختيار متحف لوفر لمعلم المدرسة الفرنسيّة الأبرز نيكولا بوسان، فهو ألمع نجوم القرن السابع عشر، بخاصة وأنه نموذجي في ربط روما عصر النهضة بباريس عصر التنوير، إذ توزعت إقامته بين عاصمتي الفن. وكذلك نشاطه الفني الكثيف. أحد أسباب إختياره أنه نقل موروث عصر النهضة بثلاثيته (رفائيل وميكيل آنجلو وليوناردو دافنشي) إلى «الكلاسيكية المحدثة» الفرنسية، وما تبعها من رومانسية وطبيعية وصولاً حتى بشائر تكعيبية بول سيزان في الفترة الإنطباعية. لذلك اعتبر بحق المؤسس الأول للمدرسة الفرنسية في التصوّير. خصص له متحف لوفر معرضين في وقت واحد فزحفت لوحاته العملاقة على جدران الصالات والأروقة الرحبة في المتحف، المعرض البانورامي الأول عن «بوسان وموضوعات التصعيد والتنزيل» والثاني «بوسان: مصنع لصور القديسين» يستمران حتى نهاية حزيران (يونيو). ولد فناننا في النورماندي عام 1594 قبل أن يستقر في باريس منذ عام 1612. وقدر له أن يتوفى في روما عام 1665. وصادف أنه وفي هذا العام بلغ حماس الملك لويس الرابع عشر له أن اقتنى منه أكبر لوحاته: الفصول الأربعة، وهو ما يكشف أن شهرته والطلب على تكليفه كان موزعاً عند السلطة الملكية بين القطبين: باريسوروما. فمنذ بواكير وجوده الشاب في باريس بدأت لوحاته تشتهر وتُقتنى، ما بين عام 1922 و 1923، فقد كلف بلوحة «موت العذراء» من أجل أشهر كاتدرائيات باريس وهي «نوتردام». وبعد أربع سنوات فقط من وصوله روما أي عام 1628 كلف بلوحة «الشهيد» لأشهر كاتدرائيات روما «سان بيتر». وهكذا بدأت أعماله الكبرى تتوزع في أبرز المواقع في روما ما بين 1636 و1642. لكن ملك فرنسا كان يريده مصوراً للبلاط منذ 1638 وهكذا أصبح المصور الأول لملك فرنسا، يقيم محترفه ويسكن في «قصر تويلري»، ثم أصبح يدير كل المحترفات الملكية بما فيها قصر «سان جرمان آن لي» القريب من باريس، وكذلك «شارتر» بصفته المسؤول الأول في فرنسا عن فنون القصور الملكية. ورغم أن نشاطه الباريسي لم يفتر فقد عاد إلى روما عام 1642، لينجز ما بين المدينتين أبرز لوحاته التي ألهمت بمناظرها البانورامية الفنانين المعاصرين. ابتداءً من رومانسية جيركو وانتهاء بواقعية جوستاف كوربيه مروراً بجماعة باربيزون الذين كانوا يصورون غابات فونتينبلو وعلى رأسهم الفنان مييه. ولم يفلت من تأثيره سوى المعلم «آنغر» لأن عبقريته تقع في موقع آخر، رغم أن الجميع بمن فيهم آنغر لم يفلتوا من نظام الإضاءة المسرحي للمعلم بوسان. هي الإضاءة التي ترجع في أبجدية تكوينها للموضوعات الدينية إلى الإيطالي كارافاجيو. إذا كان الأسلوب المتطور لدى بوسان نقل إلى فرنسا أسرار مهارات عصر النهضة الأيطالي (حذاقة الرسم البشري الكلاسيكي) وما تبعه، فإن خصائصه الفرنسية كان يتميز بها من خلال حساسية الفراغ البانورامي للمشهد الطبيعي الفردوسي المستلهم من الغابات الفرنسية وجناتها الملكية، نعثر في بعض منها على تفسير خاص في معالجة الظل والنور تخرج عن تقاليد كارافاجيو، متعددة الإضاءة، في معالجة أسطوانات الأعمدة وبعض الاشكال المكورة التي إستنبط منها سيزان تكعيبيته الإستهلالية، والتي وصل بها جورج براك وبيكاسو حتى النهاية، ندرك هنا أن أصالة هذا المعلم وتمايزه تقع في تفاصيل معالجاته للطبيعة أو الطبيعة الصامتة أكثر من الموضوعات الدينية وعناصرها الموروثة. المعرضان البانوراميان يستقطبان في عنوانهما موضوعاته الدينية وما يقره ويعترف بهم منظمو المعرضين هو أن فن بوسان قائم على المصالحة بين الديني والدنيوي. فإذا قربنا مجهرنا التحليلي أكثر من خصائصه، وجدناه يفضل القياسات الصغيرة والمتوسطة على العملاقة التي اشتهر بها، وذلك لسبب بسيط يرجع إلى أن ليبرالية زبائنه سواء من السلطات الحاكمة الدرجة الثانية أو حتى بداية طبقة البورجوازية كانوا يفضلون في دورهم الخاصة ذلك. وبذلك كان سعيه حثيثاً في توسيع دائرة انتشاره خارج الإطار المعماري الرسمي، بدليل 200 رسالة وجّهها إلى مشتري أعماله. وإذا كان الفرنسيون يتمسكون بملكيته بنوع من الفخر الثقافي رغم أن أعماله موزعة في متاحف أوروبا والعالم أكثر من فرنسا، أقول فإن العديد من المؤرخين يجدونه رمزاً أساسياً فنياً للوحدة الأوروبية بصفته نصف باريسي- نصف ايطالي، لكن الواقع أنه كان خلف تغذية شيوع النموذج الفني الأيطالي في فرنسا في العمارة والنحت وتنظيم المدن، إبتدأت باريس منذ عهد نابوليون بونابرت تخضع لهذه الهيمنة الذوقية واستقدام الفنانين الطليان بالجملة ومنهم النحات كانوفا في قصر بونابرت (ينحت أخته في تمثال مشهور)، تيمناً باستقدام ليوناردو دافينشي إلى بلاط فرنسوا الأول وموته في باريس. مع نابوليون الثالث أخذت باريس تتشابه مع روما إبتداء من أقواس النصر وانتهاء بالهرم. وحتى ندرك بعد نظر بعض الفنانين في توخي الوحدة الأوروبية نلاحظ بأن بعضهم أيّد سياسة نابوليون بونابرت الذي اجتاح أوروبا تحت دعوى توحيدها كما فعل قبل قرون شارلمان. يقع على رأس هؤلاء الفنانين ملك الموسيقى الرومانسية في ألمانيا بتهوفن مخصصاً له أعظم كونشرتاته (الخامسة) وكانت تحمل اسم بونابرت، ومع تغير موقف بتهوفن منه بعد إعلان نفسه إمبراطوراً أصبح اسم الكونشترو «الإمبراطور» بنوع من السخرية. ما أحوجنا اليوم إلى مثل هذه الدعوات الفنية التوحيدية أمام تشرذم الدول.