«سأسافر مع مصر للطيران»... قرار تحوّل «هاشتاغ»، ثم أصبح الأعلى تداولاً، وطبعاً اقتنصه البعض لبث السموم ونشر الغموم. «أنا مصر للطيران»... فكرة تحوّلت تهنئة، ثم أصبحت مثاراً للتشكيك وسبباً للتنديد. «كلنا مصر للطيران»... لافتة تحوّلت تدوينة، ثم أعيد تداولها، لكنها اختطفت ليستخدمها آخرون باعتبارها انهزامية تارة، وعبودية تارة أخرى، وتنديداً بالنظام وتحميل مصر والمصريين ما لا يتحمل الجميع. جموع حاشدة من المصريين والمصريات الذين ما زالوا يعيشون صدمة طائرة مصر للطيران المنكوبة، تحوّلت تحولاً جماعياً لا إرادياً لم يسبقه تخطيط أو يتخلله حشد وتوجيه، أو حتى يشوبه تلميح أو تلويح، إلى تبني نظرية مؤامرة كبرى نأى البعض بنفسه عنها على مدى سنوات قليلة مضت، وتأرجح البعض الآخر بين اعتناق وإقصاء درءاً لشبهة «العقلية التآمرية»، وآمن بها آخرون سراً خوفاً من الجهر بها، ومن ثم الاتهام ب»فوبيا التآمر»، ولم يعتنق سواها فريق رابع لم ير الحياة على مدى السنوات الخمس الماضية إلا عبر أعين التآمر وأذنيه وقلبه وعقله وزواياه. كل زاوية في مصر ينضح هذه الآونة بحديث يعكس إيماناً جماعياً بأن البلاد واقعة في فخ التآمر. صحيح أن أبعاد النظرية وحدودها وعواملها وأهدافها وأبطالها تبقى غامضة مبهمة غير متفق على مكوناتها، لكن لا صوت يعلو فوق صوت «المؤامرة» أياً كانت حالياً، وذلك باستثناء مجموعتين رئيسيتين. في هاتين المجموعتين، تتراوح الأحاديث والنظريات بين شماتة قاطعة حيث مظلومية طاغية في أعقاب فض «رابعة» و»النهضة» ورغبة لا تموت في عودة «الشرعية والشريعة» في الأولى، ومعارضة واضحة للنظام ومقارعة بائنة لكل من يدعمه على اعتبار أن كل ما يجري في البلاد ويلحق بالعباد هو ناجم عن فشل مزر وتخبط مدوٍ. وحين دوت في أرجاء العنكبوت وأثير الفضائيات ما ألمحت إليه شبكة «سي أن أن» الإخبارية وجريدة «إندبندنت» البريطانية بأن احتمالاً يحوم في الأفق بأن انتحار كابتن الطائرة أو مساعده ربما يكون السبب في الكارثة، مع لمحة تاريخية عن طائرة مصر للطيران التي تحطمت قبالة سواحل نيويورك في تشرين الأول (أكتوبر) عام 1999، والتي مالت فيها التفسيرات الغربية لأن يكون قائدها انتحر لأنه ردد عبارة «توكلت على الله» قبل سقوط الطائرة، تفجرت ينابيع غضب شعبية متهمة «سي أن أن» بالتآمر ضد مصر والمصريين. وانعكس رد الفعل الشعبي غير المتوقع تأييداً و»شيراً» لتغريدة الناطق باسم وزارة الخارجية المصرية المستشار أحمد أبو زيد التي كتب فيها أن «قيام شبكة سي أن أن الأميركية بالإيحاء بأن قائد الطائرة المصرية انتحر في وقت لا تزال فيه أسر الضحايا في حال حداد أمر ينقصه الاحترام». كما امتد احترام من راحوا في حادث الطائرة المنكوبة إلى الصحافية والمصورة الفرنسية ومراسلة جريدة «لو سوار» البلجيكية في القاهرة فينسان جاكي التي كتبت تدوينة طويلة على صفحتها على «فايسبوك» تقول فيها إنه «عقب اختفاء طائرة مصر للطيران بين باريسوالقاهرة، طُلب مني ألا أقدم مقالاً عن الوقائع والتركيز بدلاً من ذلك على حزن عائلات الضحايا والكلام عن (توجيه الاتهام إلى) الأمان في شركة الطيران المصرية. رفضت قائلةً أنني لم أستطع لقاء الأهالي (رفضوا الحديث مع الإعلام)، وبما أن سبب الحادث غير معروف (ليس لدينا حتى مؤشرات)، لم أكن أستطيع توجيه الاتهام، ولا حتى التلميح بمسؤولية مصر للطيران عن الحادث. واليوم يشكرونني، ويخبرونني أنني لم أعد ضمن قوة العمل». وفي خلال دقائق معدودة، كان آلاف «الشير» جرت في شكل هستيري على كل من «فايسبوك» و»تويتر»، وتم التعامل مع جاكي شعبياً باعتبارها «بطلة كشفت جوانب من تفاصيل المؤامرة الكبرى». وبين مؤامرة كبرى للنيل من مصر، وأخرى صغرى لإلحاق الضرر بشركة «مصر للطيران»، وبينهما مؤامرات متوسطة وصغيرة ومتناهية الصغر متراوحة الأحجام والأغراض والوسائل، تدور القاعدة العريضة من المصريين في دوائر تغلب عليها مشاعر وطنية ويتخللها كثير من القلق والخوف على ما يخبئه المستقبل لهم حيث جلسات تحليل مطولة ومنصات تفنيد مكبرة وحلقات «توك شو» مخصصة للتعليل الاستراتيجي والتفنيد التآمري، باتت نظرية المؤامرة هي الأعلى صوتاً والأعلى قدرة والأعمق منطقاً في سماء المصريين. حتى المجموعات الشامتة في الطائرة المنكوبة والمعارضة للنظام الذي سقطت في عصره الطائرة المنكوبة، تصول هي الأخرى وتجول في دوائر المؤامرة، لكنها مؤامرات أخرى ذات أهداف مناقضة ووسائل مغايرة للنظرية المتداولة شعبياً وغرضها الأصلي إسقاط البلاد وتضييع العباد. فجماعة «الإخوان» ومؤيدوها يرون أن «مصر للطيران خرجت من الخدمة لتلحق بقناة السويس والسد العالي والجنيه والسياحة»، و»أن جيش السيسي مش بتاع إنقاذ»، وأن «الجيش اليوناني خير أجناد الأرض»، وأن «مؤامرة نظام السيسي على مصر وشعبها تكتمل بسقوط الطائرة». وذهب آخرون إلى حد القول بأن «غضب الله على من ظلموا الدكتور محمد مرسي مستمر»، مستشهدين بآيات قرآنية عن المكر والماكري، ومفسرين إياها في ضوء المؤامرة التي يحيكها النظام ضد الجماعة وأول رئيس مدني منتخب جاءت به الصناديق. صناديق أخرى عمرت بروح المؤامرة كذلك، لكن غالبيتها دار في إطار فرصة معارضة النظام، منها ما أعلن تأجيل طرح نظريته في شرح أسباب السقوط احتراماً لمشاعر المصريين المكلومين لأن النظرية تتعلق بمؤامرة قوامها الفشل من النظام، ومنها ما اكتفى ب»رايحة بينا على فين يا مصر» و»ذنب من راحوا في رقبة النظام وداعميه ممن صدقوا بوجود مؤامرة تتربص بمصر».