كما لم ينج أحد في الطائرة الروسية، لم ينجح أحد في اختبار الشاشات. اللون الأحمر ل «عاجل» ضرب الشاشات على اختلاف ألوانها وأمزجتها وانحيازاتها بعد دقائق من وقوع الطائرة المنكوبة. الدقائق الأولى عقب كارثة من هذا النوع تشهد عادة تدفق الكاميرات إلى المكان بحثاً عن اللقطات الأولى الحصرية وهو ما تحقق للغالبية عقب الكارثة بدقائق. الكارثة تعدّت سقوط طائرة منكوبة بركّابها الأبرياء، ووصلت مرحلة التخمين والتنظير، وذلك على أرضية تسييس بالغة الخصوبة وجاهزة لنظريات المؤامرة والمؤامرة المضادة في الشرق الأوسط الجديد الجاري تحميله. ومنذ الدقائق التي تلت الكارثة، وشاشات العالم الأول والثاني وما بينهما، الرسمي منها والخاص، تتجاذب الطائرة المنكوبة وصندوقيها الأسودين، وسيناء، ومصر، والنظام والمصريين، والدول الصديقة، والمناهضة، والواقفة بين بين وكأن المعترك ساحة مزاد استخباراتي استقصائي استنتاجي يعتمد في قوامه إما على الهجوم أو الدفاع. والمثير أنّ الغائب الوحيد كان المعلومة. المعلومة الوحيدة التي أوردتها الشاشات اقتصرت على المشاهد الأولية التي تم التقاطها من موقع الكارثة حيث جانب من الحطام وحقائب الركاب المتبعثرة. ولكن كل ما عدا ذلك ظلّ في إطار «ترجيح» و «استبعاد» و «تحليل» و «ميل» و «شبه تأكيد» و «نفي». انتهجت الشاشات المصرية على اختلاف أنواعها - ما عدا تلك التي تبث خارج البلاد باسم جماعات سياسية محظورة - نهج النفي من اللحظة الأولى. تحول التمني إلى توجه عام في نشرات الأخبار. وانقلب الخوف يقيناً تطمينياً في برامج ال «توك شو». «استبعاد تام لعامل الإرهاب» كان سيد الموقف حتى لحظات قليلة ماضية. وبما إن الميول الوطنية أو حتى المخاوف الشعبية لا تبرر أبداً استبعاد أي احتمال، مهما كان ضعيفاً، صدحت أصوات عبر الشاشات ترجح ترجيحاً «يقينياً» بأن الإرهاب عامل مستبعد. فمن مذيعي برامج إلى ضيوف ومنهم إلى تصريحات رسمية غير منسوبة إلى أسماء بذاتها، صالت وجالت في عمر الطائرة، ومشكلاتها السابقة، إلى خبراء طيران مدني، وآخرين من المصنفين «محلل سياسي» و «خبير استراتيجي» و «باحث عسكري» و «أستاذ علاقات دولية»، تحدّث الجميع عن ترجيح كفة الخطأ البشري أو العيب الفني. نحو التسييس ولعلها من المرات القليلة التي تنافس فيها شاشات غربية أخرى شرق أوسطية في التسييس والانحياز والانصياع للتوجهات (وربما التوجيهات). وعلى رغم احتفاظ هذه القنوات بأخلاقيتها اللغوية المعروفة وضبطها المحكم للنعوت وحرصها البالغ في عدم وصم هذا ب «إرهابي» أو نعت ذاك ب «شهيد»، إلا أن المحصلة النهائية من تغطية كارثة الطائرة جانبتها المهنية وشابها التسييس واختلطت فيها المعلومات بالقصص الوهمية هنا وهناك. انكبت الشاشات الغربية، لا سيما البريطانية، على تناقل «خبر» ورد في صحيفة «دايلي ميل» عن طائرة بريطانية كانت في طريقها إلى شرم الشيخ قبل أسابيع تفادت هجوماً صاروخياً، ولكن لم يتم الإعلان عن الحادث أو إخبار الركاب. الخبر «الطريف» تم نفيه رسمياً، ولكن بعد ما بثته الشاشات وتسبب في ذعر غربي وعجب عربي وموجة سخرية مصرية شعبية عاتية. ولكن أعتى ما في التغطية الغربية يظل التسييس البالغ الذي لم يعد وصمة تحتكرها الشاشات العربية. فمن عبارات مثل «الجنرال العسكري الذي أطاح حكم الإسلاميين المنتخبين ديموقراطياً» إلى إسهاب في الدور الروسي غير المحمود في سورية قفزت السياسة غير مرة في متن الخبر. تطابق أميركي - بريطاني كادت الشاشات الخبرية البريطانية والأميركية تتطابق في التناول الإعلامي للطائرة. وتشابكت «المعلومات» الاستخباراتية في كلا البلدين والتي كُشِف عنها فجأة في وسائل الإعلام الغربية (ولم تعرف طريقها إلى الدولة التي شهدت أرضها الكارثة) بقصص أوردتها صحف وتناقلتها شاشات. عنصر المفاجأة عبّر عن نفسه كذلك في استعانة عدد من هذه الشاشات بمحللين استراتيجيين وخبراء عسكريين واختصاصيي طيران «تصادف» اعتناق غالبيتهم مبدأ التقصير البالغ في التأمين المصري (وقد يكون حقيقة) والذي وصفه أحدهم ب «المزمن». كما لم يسترع انتباه أو تعليق أحدهم ورود أخبار استخباراتية قبل الحادث وبعده عن ضلوع إرهابي في عمل ما في سيناء، والتكتم عليها بعيداً من الإدارة المصرية، ثم الإفصاح عنها أمام الشاشات. شاشات أخرى وجدت نفسها تتعرض لهزات تغطية عنيفة هي الشاشات الروسية والتي ظلت ملتزمة الخط الروسي الرسمي في التعامل مع الكارثة، وهو الخط الذي تطابق في ميله للتحفظ عن الأسباب لحين جمع المعلومات وإن ظهر اختلاف واضح في نبرة التكهنات. فالشاشات المصرية انجرفت في تحميل الطائرة ذنب السقوط، في حين مالت الشاشات الروسية إلى استبعاد كل من الخطأ البشري والعيب التقني. وحدث التحول المفاجئ في التغطية الروسية الحريصة على الإمساك بالعصا من المنتصف مع قرار تعليق الرحلات الروسية إلى مصر إلى حين الانتهاء من التحقيقات. ولأن الشاشات أشكال وأنواع، ولأن ما تبثه يقول الكثير عن حال الشرق الأوسط الجديد، لم يكن مستغرباً أن يتم تناول الطائرة الروسية وفق توجه وسياسة الدولة التابعة لها الشاشة. فمنها ما كاد يقيم الأفراح والليالي الملاح لسقوط الطائرة ودخول مصر في مأزق تعثّر السياحة، ومنها من حاول جاهداً التزام الحياد إنما وجد نفسه حيناً مائلاً إلى التعثر المصري في التعامل المعلوماتي والميل الفطري إلى الحجب، وحيناً آخر منقاداً إلى وفرة معلوماتية غربية، وإن كان بعضها يظل في حيز التخمين. وعلى رغم الاختلافات الهائلة في ما تبثه الشاشات، وقف الجميع على قلب شاشة واحدة حيث الإعلام المصري اكتفى بالنفي والتخمين، والغربي انهمك في إعادة تدوير ما ينشر هنا من دون تأكد وما تكشفه الدوائر الاستخباراتية هناك من دون مساءلة، والعربي انقسم بين مائل للنفي المصري بحكم المؤازرة أو راقص على النغمات الغربية من باب التخاذل. الطائرة الروسية لم تسقط في وسط سيناء فقط، بل سقطت على كل الشاشات.