مراجعات شعبية في ظل المجريات الآنية تجعل قطاعاً من المصريين يعلن الحرب الذاتية على ملكة من ملكاتهم التاريخية وموهبة من مواهبهم الفطرية وآلة من آلاتهم الدفاعية لمواجهة شظف العيش وقسوة الأحوال وتحول المحال إلى واقع يومي يعانون منه الأمرين. الأمر الجلل الذي تحول هرجاً ومرجاً وانقلب ضحكاً وغناء وكشف عن جانب لا يخلو من قساوة ولا ينزه عن البلادة، دفع كثيرين إلى وقفة مع الذات وقفزة بعيدة من التنكيت والسخرية من كل كبيرة وصغيرة في حياتهم وحياة من حولهم. فالطائرة المصرية المخطوفة ومجرياتها العجيبة وتفاصيلها الغريبة ونهايتها السعيدة فتحت أبواب النقد الذاتي على مصاريعها. سمة السخرية التي يعرف بها المصريون من آلاف السنين تحولت على مدى ال48 ساعة الماضية موضوعاً للسجال ونقطة للخلاف ومدعاة للقتال، بعضه اقتصر على الواقع الافتراضي والآخر انتقل إلى المجال الاجتماعي. وحيث إن ساحات التواصل الافتراضية اشتعلت بموجات عاتية من السخرية منذ اللحظات الأولى التي تم الإعلان فيها عن اختطاف طائرة مصرية كانت في طريقها من الإسكندرية إلى القاهرة، فقد ظن البعض في بداية الأمر أن الموجات ستخفت والاستظراف سيخبو والتنكيت سيطفو على سطح حجم الكارثة الإنسانية والاقتصادية والسياسية التي كانت تلوح في الأفق قبل معرفة التفاصيل والكشف عن حماقة الخاطف وحزامه القطني الناسف. لكن ما حدث هو العكس تماماً، فقد غرق قطاع من سكان «فايسبوك» وشعب «تويتر» في تخصيص جل الوقت وتوجيه كل الجهد من أجل ابتداع وابتكار الصور الساخرة من الحدث، وتركيب مقاطع مصورة وتخليق أخرى مجمعة، مع إطلاق عنان الفكر الابتكاري والحس الاستهزائي لتوصيف حادث الاختطاف، تارة بالسخرية من الخاطف، وأخرى من المخطوفين، وثالثة من أفراد الطاقم، ورابعة من أجهزة الأمن المصرية، وخامسة من مسار الرحلة داخلياً، وسادسة من الشركة الوطنية الناقلة، وسابعة من المصريين برمتهم، وثامنة من البلاد طولها وعرضها. وكلما تبدت تفصيلة، أو تم نفي معلومة، أو الإفصاح عن صورة، أوإعلان بيان، أو توجيه مناشدة، أو كشف ملابسة، أو بث مقابلة، أو إذاعة تقرير، أو صدور تغريدة قبرصية، أو تدوينة مصرية، أو إفصاحة أمنية، هاج المستخدمون وماجوا وتسابقوا إلى تحويلها إلى مادة للسخرية ووعاء للقهقهة وأرضاً خصبة للهأهأة. فمن هاشتاغ يتربع على عرش التريند «يا ريتنا كنا معاهم» (معبراً عن رغبة نيل حظ سفرة إلى قبرص)، إلى «والله وعملوها الرجالة» (ونجحوا في زيارة دولة أوروبية على رغم إنهم كانوا في رحلة داخلية)، إلى «من الإسكندرية إلى القاهرة عبر قبرص بدون فيزا» وغيرها، إلى مقطع فيديو لسيدات متقدمات في السن يغنين ويصفقن ويزغردن في طائرة وتبدو عليهم علامات السعادة والفرحة، إلى آخر مأخوذ من فيلم «الطريق إلى إيلات» حيث مجموعة رجال في الطائرة تحتفل بنجاح العملية، إلى تدوينات حملت ابتكارات تنكيتية بعضها دار حول العلاقات العاطفية التي تؤدي إلى خطف طائرات، أو فارق سعر التذكرة بين الإسكندريةوالقاهرة بعد ما أضيفت إليه زيارة قبرص، أو السؤال عن «السخيف» الذي أفسد فرصة الركاب الذهبية لزيارة مدينة أوروبية لم تكن على البال أو الخاطر، تحول الأثير العنكبوتي إلى ملحمة تنكيتية تؤججها نبرات إعادة التغريد وتقوي حمائمها شظايا «لايك» و «شير» على التدوين. إلا أن التدوين والتغريد كشرا عن أنيابهما أيضاً باشتعال العديد من الحروب الافتراضية الكلامية بين المنكتين والمنكدين. «نكد كبير أن تفاجأ بأبناء بلدك وهم يستظرفون وينكتون على كارثة ربما تكون لها أبعاد مأسوية. السخرية بلا سبب قلة أدب». تدوينة شخصية كتبها أحدهم على صفحته، وهو ما أغضب بعض أصدقائه ممن اعتبروا السخرية حقاً أصيلاً والنكد فعلاً قديماً. وما هي إلا دقائق حتى تحولت الصفحة إلى حلبة صراع بين محبي التنكيت ورافضيه في الأحوال الكارثية والبلائية. لكن يظل شر البلية ما يضحك. وما أضحك الجميع في نهاية اليوم الدامي كان وليد الواقع وليس نتاج العنكبوت. فقد سئل أحد المخطوفين من الشباب بعد تحريره عما مر به فقال: «كانت تجربة لذيذة والحمد لله». جانب من «لذة التجربة» جاء من النظريات التحليلية التي حاول أصحابها إضفاء صفة المعلوماتية عليها لتكشف عن أدمغة كارثية. عضو نيابي أكد في حدث تلفزيوني صباح أول من أمس وبينما الخاطف والمخطوفين في الطريق إلى قبرص أن الخاطف أقدم على فعلته كرد فعل على قضية التمويل الأجنبي للمنظمات الحقوقية غير الحكومية. محلل آخر صال وجال في دوائر مغلقة حول أصابع الاتهام التي تشير إلى جماعة الإخوان التي حتماً نفذت عملية الخطف انتقاماً مما لحق بها من أضرار. معلل أمني شرح نظريته المتمحورة حول وقوف أجهزة استخباراتية كبرى وراء الحادث للنيل من سمعة البلاد والقضاء على ما تبقى من أمل لدى العباد. مذيع لوذعي أكد أن العملية مدبرة من قبل قوى إقليمية معروفة لتحرج مصر وتمنعها من إقناع السياح بالعودة لزيارتها. الطريف أن قطار التكهنات لم يقف عند هذا الحد، بل ألم بأشخاص معارضين للنظام ومجاهرين بعدائه، فقد ذاعت نظرية بين محسوبين على جماعات بعينها أن أجهزة أمنية مصرية هي من تقف وراء خطف الطائرة، وذلك لإلهاء الناس عن ارتفاع الأسعار، وأزمة الدولار، وحديث الدعم الموعود. والأكثر طرافة إنه مع انتهاء الأزمة وتبيان التفاصيل حيث لا حزام أو يحزنون، أو إرهاب بالمعنى الحديث للكلمة، أو مطالب بالفدية أو تغيير نظام الحكم أو تعديل الوضعية الكونية للأشياء، استمر التنكيت وعلا صوت المنكتين وفي الوقت نفسه اشتعل غضب المتنكدين مطالبين بتقنين السخرية وتنظيم التنكيت.