روسيا غاضبة لأن «السياسة انتصرت على الفن» في مسابقة «يوروفيجن» التي منحت أخيراً المركز الأول للمغنية الأوكرانية جمالا عن أغنية «1944» التي تتحدث عن مأساة التهجير القسري الجماعي التي تعرّض لها تتار القرم خلال الحرب العالمية الثانية. ولم تخفّف تبريرات لجنة التحكيم في المسابقة التي تحرّم إقحام السياسة، درجة الاستياء الروسي. فحديث المنظّمين عن أن جمالا أشارت في أغنيتها إلى معاناة عائلتها ومأساتها الشخصية، قوبِل بامتعاضٍ لدى موسكو بلغ درجة السخرية الشديدة. وكشفت الناطقة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا امتلاكها حس دعابة فريداً، عندما توقّعت أن يذهب خيال الأوروبيين المنظّمين للمسابقة إلى درجة تقديم أغنية عن الرئيس السوري بشار الأسد في المسابقة المقبلة. بل أن الديبلوماسية التي تسخر عادة من تغطيات الصحافة الأوروبية للأحداث في بلدها، بطريقة تذكّر باصطياد النظام السوري أخطاء «قنوات التضليل الإعلامي» في بداية الثورة السورية، ذهبت أبعد من ذلك عبر وضعها كلمات الأغنية المقترحة عن الأسد: كتبت زاخاروفا على صفحتها على «فايسبوك»: «Assad bloody, Assad worst. Give me prize, that we can host» هكذا... «الأسد دموي، الأسد هو الأسوأ، امنحونا الجائزة لنتمكن من تنظيم المسابقة»، في إشارة إلى أن الفائز يحصل عادة على حقوق تنظيم الجولة المقبلة. قد تلهم كلمات «الأغنية» المقترحة، بعض الخبثاء، فتكون زاخاروفا قدّمت بطريقة غير مقصودة خدمة للمعارضة السورية، على رغم أنها كما يبدو لن تتنازل بسهولة عن حقوق الملكية الفكرية. لكن الأهم، أن الجدل حول الأغنية الفائزة هذا العام غيّب جزءاً من الحقيقة. فالتركيز انصبّ على أن «أوكرانيا تفوّقت على روسيا» على خلفية الصراع الدموي بين الطرفين، لكن الاستياء الروسي له سبب أبرز. فالمواجهة الروسية – الأوكرانية في «يوروفيجن» قديمة، ولم يكن لها أن تثير غضب الروس هكذا، لولا أن جمالا «مغنية أوكرانية من تتار القرم»، ولولا أن الأغنية تتحدث عن معاناة التتار الذين يحبّون أن يطلقوا على أنفسهم «السكان الأصليين لشبه الجزيرة» الذين عارضوا ضم القرم إلى روسيا. وطغى الملف أخيراً، على خلفية الإجراءات التي اتخذتها روسيا، وبينها حظر «مجلس شعب تتار القرم»، واعتباره منظمة إرهابية. وكان المجلس وهو أعلى هيئة سياسية للتتار الذين يشكّلون الآن نحو 15 في المئة من سكان شبه الجزيرة، يعمل في ظروف صعبة، بعدما أبعدت السلطات الروسية عدداً كبيراً من أعضائه من تلك المنطقة، وبينهم القائد التاريخي لتتار القرم مصطفى جميليف. وشملت القرارات الجديدة إغلاق مؤسسات إعلامية ومواقع وصفحات على شبكات التواصل، بحجّة أنها «تحضّ على التطرف والعنف»، بعدما أغلقت موسكو العام الماضي، قناة التتار التلفزيونية «أي تي آر». كما اتهمت الجارة الأوكرانية ب «دعم الإرهاب»، لأن كييف احتضنت ممثلي المجلس التتاري. وجاءت أغنية جمالا لتزيد سخونة التصعيد، فهي تذكّر بتاريخ حافل للتتار مع روسيا جعلهم يعارضون ضم شبه الجزيرة إليها، منذ نجح الروس في ضم القرم للمرة الأولى عام 1783، بعد حروب استمرت قرنين، مروراً بعهد الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين الذي اتهم التتار بالتعاون مع زعيم النازية أدولف هتلر خلال الحرب العالمية الثانية، وهُجِّروا في شكل جماعي في قطارات شحن للبضائع إلى سيبيريا. هذه الرحلة التي استمرت شهراً، لم تكن خلاله القطارات تتوقف إلا للتزوُّد بالوقود وإلقاء جثث الموتى، ألهمت كثيرين من المؤلفين، قبل أن تتحوّل إلى أغنية تشارك في «يوروفيجن». وحين جلست جمالا إلى جانب الرئيس الأوكراني بيترو بوروشينكو الذي قلّدها «وسام الفنان المكرّم» قالت المغنية أن هدفها لم يكن ميداليات أو جوائز في «يوروفيجن» بل «إثارة بهجة لدى الشعب الأوكراني الذي عانى كثيراً».