كما فعل قبلاً حين حقق فيلمه «ملائكة الشيطان»، عاد المخرج المثير للجدل أحمد بولان إلى حدث واقعي ذي بعد سياسي كي ينسج من حوله حكاية سينمائية ساخرة وحية. هذه المرة، اختار حدثاً عابراً هو صراع مغربي إسباني صغير حول جزيرة هي عبارة عن صخرة محتلة تقع شمال المغرب على غرار مدينتي سبتة ومليلية. وهو صراع دار قبل عشر سنوات. حيث كادت هذه الصخرة أن تؤدي إلى توتر مغربي أوروبي، وبالتالي أوشكت على تحقيق سابقة لحدث حول مجال جغرافي بلا نفع مادي، لكنه يمس الكرامة والسيادة. والفيلم يصور هذه الصخرة مسرحاً لتوالي الأحداث كخلفية لمحكي متخيل بالكامل. وفي هذه النقطة، يمكن تلمس ذكاء إخراجي ما، شريطة التزام الانعتاق من جاذبية «النكتة» حسب التعبير الفرنسي l'anecdote، وتطويرها لتتحول إلى سيناريو محكم يمنح عملاً سينمائياً مقبولاً. المخرج الديناميكي أحمد بولان توخى هذه المرة توظيف الحدث المستحق في شكل كوميدي. هل فعل ذلك على غرار موضة السينما المغربية في أيامنا الحالية التي تنحاز للأعمال السينمائية التي تتضمن التوابل المضحكة، أو ليجرب الاشتغال على سجل فني جديد بعد الجدية التي طبعت أفلامه السابقة؟ ويبدو أن أقرب جواب لهذين السؤالين هو لجوء المخرج إلى نوع الكوميديا في جانبه المضحك مع تضمينه قدراً من السخرية في شكل أو آخر. ومبرر رأينا هذا يتجلى في اختيار ممثل كوميدي بامتياز، له صيغته الشخصية المعروفة في الإضحاك والتنكيت واختلاق القفشات، بملامحه وجسده، كما بطريقته في إعادة إنتاج القول السيناريستي المسطر قبلاً حسب قدراته الذاتية، إنطلاقاً مما يستطيع فعله حين يرتجل بعفوية كاملة. ويتعلق الأمر بعبدالله توكونة المشهور باسم فركوس. وواضح هنا أن دوره مُحَدِّد بكثير لوقائع الشريط. فهو أدى دور جندي من جنود القوات المساعدة عيّنه قادته حارساً للصخرة اسمه ابراهيم. وهذه الأخيرة تنتصب مجالاً مشهدياً في الجزء الأكبر من الشريط. المهمة الغائبة في البداية نتتبع مراحل إقامة فركوس هذا في شبه غياب عن المهمة التي أوكلت إليه وهي مراقبة التهريب والهجرة السرية، لكنه في الحقيقة، لا يحمل من مقومات مهنته سوى الزي الرسمي في ما يأتيه من سلوك في حياته المنعزلة. وهكذا يظهر في كامل جهله وهو يلاحق رفيقه الديك مثلاً، أو يراقب ليلاً بلا أفق تحفه مياه البحر والخواء. لكن المواقف التي يتعرض لها أو يختلقها موسومة بما تحمله من مثيرات الضحك التي تنبع من شخصيته الساذجة والمائلة إلى تضخيم البسيط وتحوير الأشياء اعتماداً على قلة معرفة بالحياة، بعيداً عن العائلة وعلى سابق تعود على علاقة مع العالم نابعة من تربية عادية ممسوحة. وسيتأكد ذلك حين يعثر في إحدى جولاته في محيط الصخرة على شخص من أفريقيا جنوب الصحراء مضرجاً في دمائه وملقى تتقاذفه بقايا أمواج البحر الأبيض المتوسط عند الساحل. هذا اللقاء هو نواة وقائع الشريط، ومنه تنطلق الوقائع اللصيقة الموازية، ومنها الصراع السياسي الذي ذكرناه آنفاً، بحكم أن الحدوتة المضحكة تستلزم حواراً ليس كلامياً فقط، بل جسدياً وصراعاً ما بين شخوص من أصول مختلفة وبتصورات وأهداف مختلفة. فالأفريقي هو أحد الناجين من محاولة هجرة سرية نجو الضفاف الإسبانية. ومعروف أن أفارقة جنوب الصحراء المرشحين لاختراق الحواجز نحو الإلدورادو الأوروبي يكثرون في شمال المغرب حيث تقع أحداث الفيلم. وسيقوم الجندي بإنقاذه ومساعدته والسماح له بالدخول في حياته المنعزلة فوق الصخرة. وواضح أن المخرج توخى ذلك ليمنح شريط صيغته الفنية الخاصة به، كي يتجنب السقوط في نقل واقعة حقيقية لا غير. وتبعاً لذلك ينثر فيلم «جزيرة ليلى» ملابسات تعايش بين الشخصين بما تتضمن من مفارقات وتناقضات مثيرة كوميدية في الغالب. وسيتعمق هذا الجانب المثير حين يحاول المخرج التطرق إلى منحى السخرية اللاذعة، وتسجيل ما يكمن في لحظة جد من وضع ممتزج برائحة السياسة ورواسب علاقة قديمة بين دولتين تدوم منذ قرون بين شد وجذب مستمرين. ومن الواضح أن الفيلم هنا يحاول إظهار بعض «عبث» السياسي. فهناك لقطات طويلة لرسميين حكوميين وضباط إسبان مدججين ومجتمعين في حالة استنفار لمواجهة «تهديد» من الجارة الجنوبية. كما يقابلها في لقطات موازية تظاهرات شعبية من الجانب المغربي. أزمة ديبلوماسية طبعاً يدخل كل هذا في سجل السخرية من لحظات جدية قوية غير مبررة. والوسيلة هي آثار هذه الأزمة على حياة الجندي البسيط وضيفه القسري اللذين يجدان نفسيهما في خضم أزمة دبلوماسية لا يعيان ولا يدركان ما تنطوي عليه. وهو ما يظهره الجزء الثاني من الشريط. وفي نهاية الأمر نحصل على فيلم سينمائي خفيف الظل، يتأسس على المفارقة في شكلها العادي الذي لا يروم الغوص في موضوع له صفة سياسية من أجل مناقشته أو انتقاده، بل بناء حكاية فيلمية يقضي المشاهد في تتبعها وقتاً. كوميديا لا سوداء ولا وردية. لا يشكل الفيلم اختراقاً كبيراً في مشوار المخرج أحمد بولان السينمائي، صاحب الفيلم المميّز «علي ربيعة والآخرون». لكنه يحمل استثماراً لوسائل مادية جريئة للسيطرة على فضاء التصوير ساهم فيها الإنتاج المشترك مع الإسبان بممثليهم ومشاركتهم التقنية. ويحمل أيضاً رسماً لشخصيات جذابة إلى حد مقبول سينمائياً.