بعد «جداريات الشام – نمنوما» ( 2014)، التي عالجت روائيّاً وقائع السنتين الأولَيين للحرب في سورية، يطل علينا نبيل سليمان من جديد بروايته «ليل العالم» (منشورات دبي الثقافية) متابعاً فيها تداعيات هذه الحرب بعد إعلان الخلافة الإسلامية في مدينة الرقة السورية وتنصيب الشيخ المجاهد أبي بكر البغدادي خليفة للمسلمين بعد حوالى قرن من إلغائها على يد كمال أتاتورك. ويتصادى هذا الإعلان مع خنق الكافرة هفاف العايد في 24 آذار (مارس) 2014، على يد ملثمي تنظيم «الدولة». الرواية مؤلفة مثل السنة من أربعة فصول هي: زمن الخنق، زمن العشق، زمن التيه، زمن الربيع الأبيض الأسود. وفيها يرسم نبيل سليمان جدارية الرقة التي عرفها عن كثب وحفظ تضاريسها عن ظهر القلب. في زمن الخنق أو زمن «داعش»، يروي لنا الكاتب كيف طبّق التنظيم المتشدد قوانينه على الرقة المنكوبة: اختفاء المسيحيين (أهل الذمة)، مشاهدة القنوات الدينية دون غيرها، وضع سجادة الصلاة في الصالون متجهة نحو القبلة، إلغاء السفور واعتبار المرأة عورة، عدم مصافحة المسلم للمسيحي، منع المعازف والغناء، تخريب مقاهي الإنترنت، استباحة أموال النصارى وممتلكاتهم، الفصل بين الطلاب والطالبات في الجامعة، تحطيم التماثيل وبينها تمثال هارون الرشيد لأن التماثيل أصنام «لو كنتَ عاقلاً يا هارون، هل كنتَ أقمتَ في الرقة أكثر مما أقمتَ في بغداد طوال خلافتك؟» (102)... ويجري الكاتب مقارنة بين الدولة الإسلامية والدولة البعثية، ويرى أن الناس انتقلوا من زمن الاستخبارات إلى زمن الحسبة (110)، «للدولة الإسلامية عيونها التي تخترق الجدران كما كان للدولة البعثية» (87)، ويركز على تحريم التصوير، ما عدا طبعاً التصوير التلفزيوني الذي وظفه «داعش» بصورة متقنة لنقل ايديولوجيته. ويرى الكاتب تشابهاً كبيراً بين استمارات الأمن السياسي والعسكري واستمارات الدولة الإسلامية التي أضافت إليها «حقولاً للحج والعمرة والعشيرة والمذهب» (132)، ويربط بين «التحقيق والتعذيب»: «أخذوا منيب ثم أفرجوا عنه بعد ست سنوات، وبلا محاكمة» (319). وفي فصل «زمن العشق»، يعيدنا الكاتب إلى أعوام 1970-80-90 عندما عُيّن منيب «البانياسي» مدرّساً للغة العربية في الرقة، وكان وقتها عبدالسلام العجيلي الشخصية الرقاوية اللامعة (161، 216، 309). ويعجب منيب بهفاف العايد إحدى طالباته: «هي، وبدر التمام، والنهر [الفرات]...» (232)، «الرقة أنتِ، وأنتِ الرقة» (256). وتنداح الأغاني في رواية «ليل العالم» – ونبيل سليمان مغرم بألوانها البدوية خصوصاً: «ومن فوق/ جسر الرقة/ سلّم عليّ بيده/ ما قدرت ردّ السلام/ خاف يقولونْ تريده/ امدوّر الخدين بدر المطاليع/ نجمة الثريا بجبينهْ أظنّي». وبعد أن تنهي هفاف دراستها في جامعة حلب تنتقل إلى الشارقة ودبي، وهو ينتقل كمدرّس إلى بوعريريج في الجزائر. وهنا تبدأ فصول «زمن التيه»، وتباعد الأيام بين الحبيبين اللذين يعيشان غربة ما بعدها غربة. تقول هفاف في إحدى رسائلها: «التقيت بسوريين وسوريات حالهم أسوأ من حالي. هذا من حلب وهذه من حماه، خصوصاً من حماه. هذا بلا أب وهذه بلا زوج وهذا بلا أخ وهذه بلا ابن... صبايا وعجائز وشباب وهذا يكفر بسورية وهذا طائفي حتى النخاع وهذا يحمد الله على كل أمر عسير. هذه تترحم على من ماتوا وهذه تترك الحساب ليوم الحساب وهذا يرجو الله أن يحمي سورية وهذا يلعن أجداد من كانوا السبب في كل ما جرى» (275). إنْ هي إلا ذكريات الشتات السوري الذي تلفح ناره أواصر العالم، إن بقي هناك عالم. وبما أن منيب يرى أن «ليس للرقة مثيل وليس للفرات مثيل، وليس لهفاف مثيل» (281)، قرّر العودة إلى الشام بحثاً عن هفاف ورجع إلى دمشق. ولكن «لا أثر للرقة في دمشق. لا أثر للرقة في سورية. لا أثر لهفاف. وأنتِ بلا أثر» (296). في زمن التيه هذا، يتفتق قلم نبيل سليمان عن نصوص بهية يتجلى فيها الشعر والخيال، على هدي كتاب «النبي» لجبران خليل جبران. ويكرّ الزمن الهارب ويتقدم العمر. عشرون سنة طواها هذا التيه السوري الرجيم المليء بغصص الموت. وتبقى اللاعجة الذابحة هاجساً عند هفاف ومنيب. والرقة جاذبة، ولكن إلى أين؟ «يجب أن يعثر أحدنا على الآخر» (294)، إن مكّن القدر من ذلك. ويبدأ فصل الربيع الأبيض الأسود بإضرام معمر بوعزيزي النار في الفضاء العربي الذي هبّ والتهب. ويستهله الروائي بزيارة قام بها منيب وهفاف إلى دير مار موسى الحبشي، فيستقبلهما الأب باولو دالوليو – الذي يتكرر حضوره اللافت في هذه الرواية – «منيب صديقي، أهلاً وسهلاً» (323)؛ ويشرب باولو معهما «بصحة الشباب السوري الثائر» (325) ويضيف: «في الشهر الماضي، شهر رمضان، دعوت زوار الدير، المسيحي منهم والمسلم، إلى الصيام من أجل السلام في سورية» (326). ويضيف: «الشباب السوري فاجأني بنضجه الإنساني، وبنضجه السياسي. من هؤلاء الشباب تعلمت عن كرامة الإنسان ما لم أتعلمه في حياتي. وأنا لم يفاجئني كل هذا العنف. كنت متوقعاً له ولما أكبر منه. ولكن جذوره في الدكتاتورية. ومن فجّره هو الدكتاتورية» (330). ويدعو الى المصالحة: «المصالحة هي مستقبلنا، ولكن لا مصالحة بلا ديمقراطية» (408). وبعد هذه الزيارة الاستشفائية إلى الدير، يعودان إلى الرقة. فتعمل هفاف مع النازحين الكثر الذين وفدوا من المناطق الساخنة. ويشارك كلاهما في التظاهرات السلمية، وأثناء هروب منيب من قمع الأمن يسقط على درج بيته، بعد لبطتي ظهر تلقاهما في تظاهرة سابقة. ويصف لنا الراوي أجواء التظاهرات: «صلينا العشاء في جامع المنصوري، وبين المصلي والمصلي كان واحد من الاستخبارات» (344)، واحتدام الاشتباكات بين طلاب المدارس المؤيدين والمعارضين. ويستعرض الكاتب أعداد الفضائيات التحريضية: السوري الحر، الكوفي للميديا الحسينية، المنار، العالم، الإرث النبوي... وفي أسفل إحدى الشاشات قرأ منيب: «ويل لأمة كثرت طوائفها وقلّ فيها الدين» (جبران). يتحول الجو تدريجاً في الرقة، وتظهر الرايات السود بهتاف يقول: «قل جاء نصر الله والفتح» (376). ويسخر نبيل سليمان من هتافات الدولة المتخشبة أثناء الخدمة الإلزامية: «أمة / أح اثنين/ عربية/ أح اثنين/ واحدة/ أح اثنين...» ويقارنها بهتافات أحرار الشام مثلاً: «يا صناديد الرجال/ يا مغاوير النزال/ يا رجالات الشريعة/ سوف نبقى في الطليعة/ قد سقينا من دمانا/ كل صدع من ربانا/ نحن أحرار الشام» (282). وبدأت الدورات الشرعية للمعلمين والمهندسين والموظفين، فيقول شعيب مدرس الفلسفة: «بدلاً من المنطق والمعرفة و... أنا أدرّس الفضائل، من فضائل الجهاد إلى فضائل النكاح، وفي ما أورثنا السلف الصالح» (385). وينوء داعش بكلكله على الرقة، وتبدأ حفلات العقاب من جلد وإعدام بالرصاص أو قطع ليد أو لرقبة (386). وبدأت الاعتقالات: اعتقل فراس الحاج صالح أخو الكاتب ياسين الحاج صالح المتخفي في الرقة، اختفى الأب باولو بعد أن غنّى «رقة رقة رقة/ بقلبي نار وحرقة». واندلعت حرب ضروس بين «جبهة النصرة» و «داعش»، وحقق «داعش» نصراً ساحقاً بعد أن توافد إليه آلاف المجاهدين من خارج سورية، ويُقطع رأس «الكافر» العوايني عبدالعفيف غنام، وتحتدم الاشتباكات بين الأكراد و «داعش»؛ وبسرعة يختفي علم أبو نجمتين أو ثلاث، وترتفع الرايات السود ويهرب الناس: «لم يبق في الرقة كردي، لم يبق في الرقة مسيحي ولا علوي ولا درزي ولا... العربي يفر والسني يفر ومن لجأوا إليها فروا منها. صارت رقتك ملعباً لمن يلعب من مشارق الأرض ومغاربها» (438). يختتم نبيل سليمان الرواية بمثول منيب أمام ديوان الحسبة فيُصفع ويُفرج عنه بعد ساعتين. يخرج من الرقة بسيارته المهشمة، يسوق بغير هدى. ويصل إلى الهاوية التي كان «داعش» يلقي فيها الجثث ويحرقها. ويلتقي قربها بموسى أخي هفاف الفار من وجه «داعش: فيقول له أنه مهزوم مثل أي سوري وأن كل سوري هو مغلوب في هذه الحرب. ويلقي رجال «داعش» القبض عليهما، فيضعانهما في قفص حديدي ويلقيانه في الفرات. وتنتهي الرواية بمشهد أخروي يذكّر بجحيم دانتي: «في قاع الهوتة ظهرت أيد تتسابق كي تتلقف جثتي موسى ومنيب... وكانت هفاف وسنية تتقدمان نحوهما، يتبعهما كثيرون وكثيرات في غناء وزغاريد... هذا هو العرس الذي لا ينتهي، في ليلة لا تنتهي، في...» (460). وتنتهي الرواية بحرف الجرّ هذا المفتوح على لغز سورية ونكبتها. إنه لزمن دائري يبدأ بخنق هتاف وموت أم باسيل وينتهي بمشهد الهوتة الرهيب الذي حلّق فيه نبيل سليمان، «وما أدراك ما الهوتة»!