كانت بيروت أمس على موعد مع الزمن الجميل للصحافة اللبنانية ولبنان، لمناسبة إحياء الذكرى الخمسين لاغتيال مؤسس جريدة «الحياة» كامل مروة (1915- 1966)، أبرز رواد مهنة المتاعب، الذي عايش مرحلة من التألق المفتقد، والحياة السياسية الراقية. وفي حضور شخصيات سياسية وثقافية وإعلامية واجتماعية وديبلوماسية، افتتح في وسط العاصمة معرض بعنوان «كامل مروة الذكرى الخمسون: حياته في صُوَر»، بدعوة من «مؤسسة كامل مروة»، وتقدَّم الحضور رئيس الجمهورية السابق أمين الجميل ورئيس المجلس النيابي السابق حسين الحسيني، والسفير الأميركي ريتشارد جونز. بجولة بسيطة على المعرض، يكتشف المرء الفرق بين لبنان اليوم الغارق بمشاكله السياسية وأزمة نفاياته وتقلص مساحة الحلم فيه، ولبنان كامل مروّة الساحر، الذي فاز فيه الملك حسين بسباق للسيارات، وتنزّه ونستون تشرشل على طريق بيت مري، وتزلّج شاه إيران في مياه خليج جونيه بأمان، وزاره أبرز نجوم العالم... حسبما تنبئنا الملصقات- الصور العملاقة لمانشيتات «الحياة»، من الأربعينات حتى الستينات. ومن الصور والوثائق التي توزعت على قاعتين في «سوق الذهب» ثم في شارع «فخري بك»، تمتزج الأحداث في حياة مروة، بدءاً من نشأته ودراسته في «المقاصد» في صيدا، ثم في الجامعة الأميركية في بيروت، ودخوله عالم الصحافة بالانضمام إلى جريدة «النداء»، وإصداره أول مجلة «الحرب الجديدة المصورة» عام 1939، فيما كان يمارس مهنة التعليم... ثم العمل في جريدة «النهار» محرراً للشؤون العربية والدولية، وصولاً إلى الحرب العالمية الثانية، والسفر إلى أفريقيا لجمع التبرعات، والتنقل بين بيروت وبرلين صحافياً وواحداً من الناشطين العرب من أجل الاستقلال، وتأسيس جريدة «الحياة» (1946)، وانطلاقة تجربة إعلامية جديدة ومتطورة في العالم العربي إلى يوم اغتياله عام 1966. تروي الملصقات قصة الناشر الأول الذي أصدر 3 صحف باللغات العربية والإنكليزية (دايلي ستار) والفرنسية (لو ماتان)... وصولاً إلى الافتتاحية الأخيرة التي كتبها قبل يومين من اغتياله في ذكرى 15 أيار وضياع فلسطين. تجربة مليئة بالمغامرات، فيها كثير من الحب والأمل مع زوجته سلمى التي ارتبط بها عام 1948. ويتضمن المعرض كثيراً من بدايات مروة، ومنها مقتطفات من المقالة الأولى، والمسابقات المدرسية التي كان يشارك فيها ويفوز دوماً بالمركز الأول بلغات ثلاث: العربية والإنكليزية والفرنسية. ويستمر المعرض حتى 3 حزيران (يونيو) المقبل. يشرح مالك مروة نجل الراحل ل «الحياة»، أن محتويات المعرض هي من الأرشيف الكبير لوالده الذي حافظت عليه العائلة. لكن جمعه لم يكن سهلاً، بسبب الحرب وتشتت المواد. وعمل كريم ومالك شهرين ونصف الشهر على تجميع المواد واختيار المناسب. ويعكس المعرض، أيضاً، التحولات التي شهدها الشرق الأوسط وغيّرت مسار المنطقة بأكملها، من مرحلة الاستقلال عن الانتدابات، إلى الصراعات الكبرى والخيبات السياسية والاجتماعية. ويضم المعرض، إلى الصور، بعضاً من صفحات «الحياة»، موزّعة على ما يقارب 80 لوحة تتضمن أيضاً إعلانات من تلك الحقبة، تعيد رواية التاريخ من منظار يعكس الجو الاقتصادي والاجتماعي والثقافي في حينه. ويستعيد حياة كامل مروة التي يتداخل فيها الشخصي بالمهني بتاريخ المنطقة، فتبدو محتوياته تعبيراً عن ذاكرة لبنانية جماعية. عُرف مروة بأسلوبه السهل الممتنع وإيجازه في التعبير عن أفكاره. وكان غزير الإنتاج، يسطِّر يومياً ثلاثة مقالات وتحليلات سياسية، إضافة إلى مقال أسبوعي مطوّل، ينشره أيام الآحاد ويوقعه باسم مستعار: «سياسي عربي قديم». كان له تعليقان سياسيان على الصفحة الأولى، في خروج عن التقليد. الافتتاحية الرئيسية كانت تحمل عنوان «قل كلمتك وامش»، أما الافتتاحية الثانية فكان عنوانها «عيون وآذان» ويوقعها بالاسم المستعار «حي»، وهذه الزاوية ما زالت يومية ويكتبها الصحافي جهاد الخازن. كما كان له أحياناً عمود في الصفحات الداخلية يحلل فيه الشؤون العربية أو الدولية ويوقعه باسم «مراقب»، أو «مالك»، بحسب الموضوع. صدر العدد الأول من «الحياة» مطلع عام 1946، فتلقفه القراء بشغف كبير، بسبب الملصقات الإعلانية التي علقت على جدران الوسط التجاري لبيروت والتي أنبأت بقرب بصدور «جريدة نظيفة، بأقلام نظيفة، في خدمة غايات نظيفة». وكانت «الحياة» جريدة جديدة في كل شيء، تطبع وتوزّع باكراً عند الفجر في زمن كانت غالبية الصحف تصدر عند الظهيرة. وكانت تغطيتها الإخبارية تركز على الشؤون العربية والدولية، بينما منافساتها غارقة في السياسة المحلية. ومع نكبة فلسطين عام 1948، توقفت الصحف الفلسطينية في حيفا ويافا عن الصدور، فلجأ عرب المشرق إلى «الحياة» كمصدر أول للأخبار، وذاع صيتها، فباتت الجريدة المشرقية الأولى. واستمرت الصحيفة بعد اغتيال مؤسسها، إلى أن أوقفتها الحرب اللبنانية أو علّقت صدورها، إلى حين ولادتها مجدداً بحلة عربية شاملة في لندن عام 1988، ثم انتقالها إلى عهدة ناشرها الأمير خالد بن سلطان، ومواكبتها التطور التكنولوجي في صناعة الصحف والطباعة والنشر، لتصبح «دولية» بامتياز. وقال كريم مروة باسم شقيقيه جميل ومالك وشقيقتيه حياة ولينا، مفتتحاً المعرض، إن «الحياة» كانت «المدافعَ الأول عن صيغة العيش المشترك وجريدة رصينة موثوقة تربعت لفترة على قمة السلطة الرابعة في لبنان وشاركت في الحكم بلا تزلف والمعارضة بلا ابتذال». وأضاف: «كان صاحبها جريئاً وحراً، وكان يلتقط لعبة الأمم على الطاير، وينبه من يحب أن يسمع من حكامنا العرب إلى أن الارتجال مع هذه الأمم لا يوصل إلا إلى الخراب. وكان يعتبر أننا نحن أكبر الأعداء لأنفسنا، نقول الكذبة ونصدقها ونتلهى بتصنيف بعضنا: وطنيين وخونة ومؤمنين وكفرة، ونتفرج على أولادنا يتقاتلون... ودعا اللبنانيين إلى المجيء للمعرض «للتمتع بهذه الرحلة عبر الزمن وليروا كم كان بلدنا جميلاً».