تتحقق هذه المرة بصيغة ميدانية فعلية الدعوة النظرية إلى «اللامركزية الثقافية» (إلى جانب الإدارية والسياحية وسواهما) وخروج المقاطعات والمدن عن «مونبلييه» احتكار العاصمة باريس لكل هذه الجوانب بخاصة استقطاب أبرز المتاحف والمؤسسات الفنية حتى بدت وكأنها مركز الإشعاع الوحيد، وحتى دعيت ب «مدينة النور»، وإذا كان أكبر دعاة اللامركزية هما الرئيسان ميتران وشيراك فقد ارتبطت أمجاد الاثنين بمساهمتها الأساسية في هذا الاستقطاب. هو الذي بدأ منذ عهد بونابرت. بما أن الأول ميتران كان مهندساً معمارياً فقد أُنشئ في عهده عجائب باريس السبع، كان آخرها المكتبة التي تقمصت شكل الكتاب، وأرهقت الموازنة بعد وفاته بسنوات، وكذلك أمر الرئيس الذي أعقبه شيراك، فقد ارتبط اسمه بتحقيق التنظيم المعماري الزاهي حول مركز بومبيدو (أنشئ عام 1977 بعد وفاة بومبيدو فاحتفظ باسمه اعترافاً بفضله) وخلد شيراك عهده بأحد أبرز المتاحف المعروفة باسم موقعه «برونلي» أو بالأحرى «متحف الفنون الأولى» الفريد على الكوكب الأرضي. لهذه الأسباب أعتبر تأسيس مركز بومبيدو جديد في مدينة ميتز وافتتاحه من قبل رئيس الجمهورية (في الثاني عشر من أيار المنصرم) حدثاً فنياً استثنائياً والأبرز معمارياً على مستوى فرنسا. تقع المدينة شمال باريس وبموقع استراتيجي متوسط بين الحدود الألمانية والبليجكية ولكسمبورغ، وتعتبر مدينة غوطية نموذجية وعاصمة مقاطعة اللورين، ارتبطت بسهولة الاتصال ببقية المتاحف الأوروبية (بخاصة نانسي وستراسبورغ ولكسمبورغ) وسهولة الارتباط بباريس نفسها من طريق القطار السريع TGV. بحيث تستغرق الرحلة ساعة و17 دقيقة من المحطة إلى المدينة. كذلك فإنه إذا كان تقدير عدد الزوار نحو مئتي ألف لهذا الموسم فإن نسبة القادمين من باريس ستكون عشرة في المئة. وقد نشّط افتتاحه مراكز الحيوية الثقافية في المدينة مثل حركة المسرح المبني فوق المدرّج الروماني، وإذا ابتدأ بعدد الموظفين الستين فسيصل إلى الثلاثمئة، وقد بدت عمارته مفتوحة على الذاكرة الغوطية للمدينة بثلاث نوافذ عملاقة تتلألأ خلفها الكاتدرائية، كما ألحقت به محترفات للأولاد ومواقع استضافات، واعتنى المهندس الزراعي بروح الاستضافة في خصوبة الحديقة المطوقة للعمارة. كلفت العمارة وحدها أكثر من سبعين مليون يورو وأكثر من عشرين للتجهيزات، مبنية على مساحة شاسعة تعتبر أكبر مساحة عرض في أوروبا. أما هندسته المعمارية فهي غاية في الجمال، لا يجمعها مع مركز بومبيدو باريس سوى قوة الاختراع والطليعية المعاصرة. كُلّف مهندسان معماريان بمسؤولية تصميمه والإشراف على تنفيذه: الأول هو بان شيجرو (من أصل ياباني وهو الأهم) والثاني جان غاستين، يصرح الأول لمجلة البوزار بحديث مستفيض بالغ الأهمية يقول إنه استلهم الشكل العام من القبعة الصينية، هو ما أعطاه صفة الاستضافة المرنة، فهو حار حميم مفتوح ولكنه يمثل بالوقت نفسه ذروة التقدم التقني، مغلف بدثار أشبه بالغيم أو السحاب محمول على أروقة بنائية وفراغية متراشحة، وهو أحد مشروعين يمثلان اللامركزية المذكورة ولكنه سبقه في التنفيذ لأن الثاني وهو متحف «لوفر - لانس» سينتهي في بحر عام 2012 وكان بدأ منذ عام 2003. يحقق «بومبيدو ميتز» مصالحة توفيقية بين المتحف ومركز الفنون الحي، كذلك فإن معرض الافتتاح كان بسيطاً وبعنوان تربوي أبسط: «أعمال فنية افتتاحية» ضمت سبعمئة وثمانين عملاً فنياً، استعير سبعمئة منها من متحف الفن المعاصر لبومبيدو باريس، واختير الباقي من بداية المجموعة الجديدة الخاصة بالمتحف الجديد. وهكذا يتجول الزائر (بصيغة مجانية في الفترات الأولى) بين روائع كاندينسكي وماتيس، بيكاسو وميرو وبرانكوسي، إلى جانب المعاصرين الذين نعرف أسماءهم بدرجة أقل مثل سوفي غال ولويس بورجوا وغيرهم. من المثير للانتباه أن العمارة نالت سريعاً الإعجاب والموافقة العامة والمباركة الذوقية بعكس ما يناله مركز بومبيدو في باريس من التجريح والنقد حتى اليوم.