الإنجاز الأهم وزهو التكريم    نهاية الطفرة الصينية !    "الإحصاء": ارتفاع الصادرات غير البترولية بنسبة 22.8 % في سبتمبر 2024    بدء تسجيل 227,778 قطعة عقارية بمدينة الدمام ومحافظتي الخبر والقطيف    تحت رعاية ولي العهد.. المملكة تستضيف غداً مؤتمر الاستثمار العالمي    السودان.. في زمن النسيان    لبنان.. بين فيليب حبيب وهوكشتاين !    روسيا تعزز جيشها بإعفاء المجندين الجدد من الديون    أونروا تحذر من نقص إمدادات الغذاء في غزة    «كل البيعة خربانة»    الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    الملك يصدر أمرًا ملكيًا بتعيين 125 عضوًا بمرتبة ملازم تحقيق على سلك أعضاء النيابة العامة القضائي    25 دولة تُشارك في معرض الأسبوع السعودي الدولي للحرف اليدوية «بنان»    اطلعوا على مراحل طباعة المصحف الشريف.. ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة يزورون المواقع التاريخية    الاتحاد يعتلي صدارة الدوري السعودي للمحترفين عقب فوزه على الفتح    حرفيون سعوديون يشكلون تاريخ وحكايات المدن على الجبس    وزير الثقافة يرعى حفل تكريم الفائزين بجائزة مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية في دورتها الثالثة    محافظ جدة يواسي آل كامل وآل يماني في فقيدتهما    السلفية والسلفية المعاصرة    الرياض يتعادل سلبياً مع الاتفاق في دوري روشن للمحترفين    أمير الرياض يفتتح المؤتمر العالمي للموهبة والإبداع في نسخته الثالثة    برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة يقيم لقاءً علميًا عن مناسك العمرة    نائب وزير الخارجية يستقبل المبعوث الأمريكي الخاص للسودان    صلاح يقلب تأخر ليفربول أمام ساوثهامبتون ويقوده للتحليق في قمة الدوري الإنجليزي    بيولي: اعتدنا على ضغط المباريات وهذه الحالة الوحيدة لمشاركة رونالدو    موجة نزوح جديدة في غزة.. إسرائيل تهجر سكان «الشجاعية»    شتوية عبور" تجمع 300 طفل بأجواء ترفيهية وتعليمية بمناسبة اليوم العالمي للطفل    حلبة كورنيش جدة تستضيف برنامج فتيات    أمير الشرقية يرعى ملتقى "الممارسات الوقفية 2024"    شفاعة ⁧‫أمير الحدود الشمالية‬⁩ تُثمر عن عتق رقبة مواطن من القصاص    مستشفى أبها للولادة والأطفال يُقيم فعالية "اليوم العالمي للإلتهاب الرئوي"    الجوال يتسبب في أكثر الحوادث المرورية بعسير    برنامج الغذاء العالمي: وصول قافلة مساعدات غذائية إلى مخيم زمزم للنازحين في دارفور    منتدى المحتوى المحلي يختتم أعماله بحضور أكثر من 6 آلاف زائر وتوقيع 44 اتفاقية    أمير القصيم يستقبل الرئيس التنفيذي لهيئة تطوير محمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية    أمير الرياض يكلف الغملاس محافظا للمزاحمية    أمير الرياض يفتتح المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة    موقف توني من مواجهة الأهلي والعين    اكثر من مائة رياضيا يتنافسون في بطولة بادل بجازان    التزامًا بتمكينها المستمر لأكثر من 25 مليون مستخدم نشط شهريًا    "الصندوق العقاري": إيداع أكثر من مليار ريال في حسابات مستفيدي "سكني" لشهر نوفمبر    «التعليم» تطلق برنامج «فرص» لتطوير إجراءات نقل المعلمين    "البرلمان العربي" يرحب بإصدار الجنائية الدولية مذكرتي اعتقال بحق رئيس وزراء كيان الاحتلال ووزير دفاعه السابق    اقتصادي / الهيئة العامة للأمن الغذائي تسمح لشركات المطاحن المرخصة بتصدير الدقيق    الأرصاد: أمطار غزيرة على عدد من المناطق    لماذا رفعت «موديز» تصنيف السعودية المستقبلي إلى «مستقر» ؟    «مجمع إرادة»: ارتباط وثيق بين «السكري» والصحة النفسية    بحضور سمو وزير الثقافة.. «الأوركسترا السعودية» تتألق في طوكيو    تحفيزًا للإبداع في مختلف المسارات.. فتح التسجيل في الجائزة السنوية للمنتدى السعودي للإعلام    القِبلة    فعاليات متنوعة    "الحياة الفطرية" تطلق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش    القبض على مقيم لاعتدائه بسلاح أبيض على آخر وسرقة مبلغ مالي بالرياض    فرع وزارة الصحة بجازان يطلق حزمة من البرامج التوعوية بالمنطقة    إبر التنحيف وأثرها على الاقتصاد    «سلمان للإغاثة» ينظم زيارة للتوائم الملتصقة وذويهم لمعرض ترشح المملكة لاستضافة كأس العالم 2034    قرار التعليم رسم البسمة على محيا المعلمين والمعلمات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صلاح القصب: الثقافة ذاهبةٌ إلى التلاشي والمسرح إلى موت موقت
نشر في الحياة يوم 30 - 05 - 2010

كيف نرى أفق ذاكرتنا الثقافية المتخمة بأدخنة الحروب وأسئلة التشاؤم، في الفضاء الإنساني الراهن، حيث تعود الرأسمالية إلى أسلوبها القديم لتصوغ جغرافيا العالم عبر الحروب العسكرية والاستعمار المباشر.
وهل هناك متغيرات حضارية كبرى تلوح في مسقبل حياة المجتمعات البشرية، يتنبأ بها حراك المسرح العالمي بصفته المصغي الجيد لدبيب كل ما هو متغير؟ وهل ستعمل لغة «الصورة» المصاغة من الميديا العولمية الغربية، على تهميش الصورة المنبثقة من الكلمة المعبّرة عن «الكلاسيك»، خصوصاً في حضارة الشرق، في ظل غياب المخرج المسرحي الخلاّق عن المشهد الإبداعي؟ وأخيراً، هل لا يزال الإنسان العربي، وخصوصاً الفنان المسرحي، يقف على باب المدينة، تلك التي تشهد تنامياً في العمران، فيما تخبو ملامحها الثقافية والاجتماعية، ويأفل فضاؤها؟ هذه التساؤلات والموضوعات المفاهيمية وغيرها، يتحدث عنها منظّر مسرح الصورة في المسرح العربي، العراقي الدكتور صلاح القصب، في حوار أجريته معه خلال مهرجان قرطاج في دورته الأخيرة.
 كيف نرى أفق الذاكرة الثقافية، خصوصاً المسرحية منها، في الفضاء الإنساني الراهن لما بعد مرحلة 11 أيلول (سبتمبر)، والتي تشهد عودة الرأسمالية إلى أسلوبها القديم، بصوغ جغرافيا العالم عبر الحروب العسكرية والاستعمار المباشر... هذه الذاكرة المتخمة بأدخنة الحروب وأسئلة التشاؤم، والخالية من المجددين والمنظّرين والمتنبئين باليوتوبيا الجديدة، في ظل رغائب الميديا وسطوة التكنولوجيا المعلبة بأنماط الثقافة الاستهلاكية؟
- إنه غبار عاصف يجتاح مناطق الثقافة والفنون في هذا العالم، لا بل إنني أرى كل المنجز الذي تحقق عبر سنوات وقرون ماضية قد تهمش، ودخل ضمن أتونات حرارية مغبرة لا نرى منها إلا ظلال ذكريات وألم، ولم تستطع ذاكرتي حتى الآن أن تستوعب هذا الحزن، وهذا الألم المتسربل بقمم لا نعرف أين سنصل معها، وأين سترسو الذاكرة، وأين سترسو الثقافة، والمسرح خصوصاً.
لقد انتهى زمن التنظير وزمن الإبداع. تصحرت كل القراءات، صحّرتها حضارة القرن وتكنولوجيته المدمرة، فماذا نرى الآن غير قوافل من السحب منتشرة في سماء الثقافة. لقد تجمدت كل الخرائط وانحسرت. هذا الانحسار ليس محصوراً ومحدوداً أو محدداً في خريطة المسرح فحسب، فما عدنا نرى الآن لوحات شعر جديدة، ولم تعد هناك نوتات وسيمفونيات موسيقية كتلك التي دوزنتها قراءات باخ وبتهوفن وموزارت، ما عدنا نتلمس فناناً تشكيلياً يسمو ويحلّق في فضاءات لا حدود لها، فالعاصفة تقترب لتلاشي وتضبّب بعض ما تبقى من ذاكرة إنسانية في الثقافة العالمية.
نحن الآن بحاجة إلى ذلك الحريق الكبير الذي أحدثته حركة الانطباعيين التشكيليين في فرنسا، فلا بد من أن يكوّن استيقاظاً جديداً وحركات تنظيرية جديدة، حركه أشبه بحركة الرمزيين الذين أحدثوا زلزالاً في خريطة الشعر.
هل ترى أن هناك متغيرات حضارية تلوح في مستقبل حياة المجتمعات البشرية، يحدس بها حراك المسرح العالمي بصفته المتنبئ الذي لا يخيب في الإنصات الى دبيب المتغيرات التي تعبّر عمّا يمور في البنى التحتية للمجتمعات الإنسانية؟
- أعتقد أنه سيكون هنالك زلزال يغير جيولوجية الفن وجغرافيته، وهذا التغيير أحيله إلى «الكلاسيك»، وسيكون هنالك فضاء آخر جديد، ولكن زمنه سيكون متأخراً جداً، لا نشاهد فيه التجارب المسرحية الجديدة التي تحركها المخيلة، لا بل تحركها قوى بصرية لونية مدهشة، ولكن لا يزال المسرح الآن سرمداً غارقاً في كثافة اللغة، تهرب الموسيقى والغناء منه، إلى عري وتفسخٍ للذاكرة والقراءة والإنسان على السواء.
لغة «الصورة» المصاغة من الميديا العولمية الغربية، والتي وصفها إدوارد سعيد، ب «حفيدة النظرة المركزية الأوروبية»، لا بل هي تستمد نسغها من الرؤية الاستشراقية... هذه اللغة، هل ستدفع آلياتها، في مشهد الثقافة العالمية الراهن، إلى تهميش الصورة المنبثقة من الكلمة المعبرة عن «الكلاسيك» وخصوصاً حضارة الشرق، ليس ابتداء من نص جلجامش وليس انتهاء بالكتب المقدسة، وإلى أين سينتهي هذا الجدل الحاد في مضمار التاريخ بين قراءات حضارة الكلمة من جهة، وقراءات حضارة الصورة؟
- الصورة تجيء وتنبعث من اللغة كما في «جدارية» محمود درويش، إضافة إلى الصورة المنتجة تقنياً، وقد تفوقت الأولى على الثانية، وكذلك تتفوق بأعمال دوستويفسكي وتولستوي وهمنغواي ونجيب محفوظ، وقمم شعرية أخرى كإدغار آلن بو وقراءات ماركيز وستاندال... تلك اللغة التي تحركت إلى ما بعد اللغة. إنها ما بعد المستقبل الآتي. إنها السنوات ما بين تلك المنجزات والزمن الآن. هذه المسافة الزمنية ما بين تلك القمم المتسربلة بالذهب، حيث اللغة مملوءة بصور أكثر كثافة من الجمل والحروف. ونحن نقف الآن إجلالاً لذلك المجد الثقافي، مجد ثقافة الصورة، ونحن نطالع منجزات ذات تضاريس متداخلة ما بين جلالة اللغة التي تمتلك الصورة والإيقاع داخل القارئ.
نحن لا نقرأ دوستويفسكي ونجيب محفوظ وسواهما، بل نرى عوالمهم التي سجلت إرثاً لا يزال في قمة الهرم على مستوى العالم، فالصورة لغة، واللغة صورة. لا نستطيع أن نفك ذلك الارتباط المتداخل ما بين مياه المحيطين؛ محيط اللغة ومحيط الصورة. شكسبير ممتلئ وغارق في بحر ومحيطات لعالم كثيف، عالم أشبه بتلك الأطياف التي تلامسنا في أحلامنا الليلية. نحن نبحث عن هذه اللغة، ذات الصهيل الذي يحفز كل خلايا المخيلة، في نتاج برنارد شو وآرثر مبلر وتينسي ويليامز وآخرين... فاللغة شبيهة بغابات مزدهرة يشع من خلالها الجمال والصمت كأصوات الموسيقى إذ تشع باللون.
علينا ألا نغرق في كثافة أصوات لغوية جامدة كالصخور التي تتزاحم تراصفاً في مساحات الأرض وجيولوجيتها. إنها لغة ميتة أساساً، لا يستطيع المخرج أن يتحرك في أجوائها، وأنا أرثي اللغة الرثة، اللغة المنحطّة، اللغة الشبيهة بقالب من الشمع سرعان ما ينصهر عندما تلامسه الحرارة.
اللغة كائن اجتماعي يصاب بالنكوص أو الازدهار، بحسب حاضنة العمران الاجتماعي والاقتصادي التي تتمظهر فيها هذه اللغة. هل ستذهب جماليات لغتنا في الراهن، بالمسرح إلى تخوم جديدة من المعنى لجهة التنوير المعلب، أم إلى انفلات عقلاني، أم إلى شيء آخر؟
- لغة المسرح والثقافة ولغة الفن يحررها التجاوز والانفلات الزمني لإبداع آت، وكي تتحرر لغة الإبداع والمسرح تحديداً من تلك الحجرات التي تأسر العقل والإبداع الإنساني لا يمكن أن تتحدد بتلك التحديدات الأيديولوجية والسيسولوجية، فاللغة ليست خطابات اجتماعية ومحطات تاريخية وتبشيرية يؤدلجها الأيديولوجي الاجتماعي اليومي، فلا يمكن أن تتصافح هذه اللغة مع القسري الآن. إنها حمى إبداعية متحررة تدفع المثقف كي يتحرر من كل الاستلاب والقهر الاجتماعي والأخلاقي. إنها ليست قنوات تبشيرية ذات خط مستقيم واحد مع القارئ أو المشاهد.
اللغة شبكة من الإرسالات يؤدلجها الكاتب والفنان لو رجعنا إلى الذاكرة، وهي ذاكرة مستقبلية على رغم أن مسافة زمنية تعود لقرون ماضية تفصلنا عنها. فشكسبير مثلاً، أسس في تراثه الدرامي خطاباً اجتماعياً لا يستطيع بطله معه أن يتصالح مع المفهوم الاجتماعي، أو مع المعنى الأخلاقي مثلاً، لا بل أسس مفاهيم جديدة في المعنى الأخلاقي والاجتماعي الذي يبحث عنه الفنان والمثقف... إنه حوار ما بعد الحضارة، ما بعد الآتي. هو عمق لتلك المفاهيم التي سجلتها ذاكرة التراث المضيء لأمة عربية، ومفاهيم لومضات مشرقة لهذه الأمة، فالمفهوم الأخلاقي والاجتماعي عند المتنبي والسياب والبياتي وأدونيس وسامي مهدي وسعدي يوسف، لوحات للمعنى الفيزيائي داخل هؤلاء، والمعنى الفيزيائي هو حرارة تصلنا مثلما تصلنا حرارة أشعة الشمس، كذلك ما طرحه الفنانون التشكيليون وفنانو خريطة قارات العالم، كجواد سليم وفائق حسن وماتيس وفان غوغ ودالي، هؤلاء تحركوا ضمن أيديولوجيا لموقف اجتماعي وتاريخي منسجم مع ذواتهم أولاً، تلك الذوات المتحررة الصافية كأشعة الشمس، والقطوف البلورية في فضاءات السماء.
نريد أن نحدد أكثر، ما الذي تراه الآن في المشهد المسرحي العربي، ضمن الواقع الذي حاولت تشخيصه سابقاً... هل يذهب المسرح العربي نحو الذبول والخفوت في جمالياته وفي إنشاء معماره، أم انه ذاهب إلى مسار متطور؟
- لم نرَ البحر بامتداداته وغضبه وأمواجه التي تتراقص، وسريته ومراكبه الملونة، بل نرى جزراً صغيرة معرّضة للغرق والتلاشي بأية لحظة، هذا هو المسرح الآن بجغرافيته الأممية، المسرح ليس إقليماً، والفنون والثقافة ليست أقاليم موزعة في جغرافية الحضارة، إنها فيزياء متداخلة... إنها المركب الكيميائي السري الذي لا يزال يشغلنا كي نكتشف ذلك العنصر الذي يمنح المسرح خلايا جديدة، خلايا ضد الشيخوخة وتجاعيد الزمن، لذلك فإن مسرحنا وتحديداً على مستوى جغرافية الإقليم العربي لا يزال أشبه بتلك الجزر، على رغم أن هنالك اجتهادات وقراءات وسفراً من رحلة نحو الآتي، نحو زمن يسكنه الإبداع، وتحديداً تلك المحاولات المتألقة لبعض الجزر السورية والعراقية والتونسية واللبنانية والمصرية والأردنية، وإنني أخاف من ذلك الصوت الآتي الذي يعلن انعدام هذه الجزيرة التي اسمها «المسرح» وتلاشيها.
هل ترى أن مصفوفة المسرح ستبدأ بالانهيار قريباً، ومن ثم يُعلن موت المسرح؟
- بدأت الرؤية الآن بالتلاشي والنكوص لدرجة ما بعد الصفر، وهذا يعني الانجماد. وبعد هذا الانجماد يستيقظ هذا الجليد ويذوب بأشعة شمس دافئة ليكوّن لنا بحيرة المسرح الآتي. أعتقد أن هذه الرؤية تقترب من نهاية الخطوط نحو التلاشي، وهذا التلاشي سيستغرق إعادة قوى جديدة وخلايا لا تسمح للشيخوخة باختراق هذا الهرم الذي يملأ كل مساحات القارات، أقصد المسرح.
وبعد انتظار يستغرق عقوداً من الزمن يستيقظ هذا الألق وتعلن قارة جديدة، هي قارة المسرح الآتي، أي بعد مرحلة سبات وتلاشٍ وانحدار نحو هاوية التكرار والذبول، فالغابة بدأت تخترقها مساحات الكونكريت والإسفلت. سيتلاشى الكيان الأخضر من جغرافيته، ولكن ستعاد مرة ثانية كل تلك الأناشيد وتزدهر بكيميائية الفنون والثقافة. سنرى غابات ملونة جديدة تسكنها وتطوف بها قوارب وجنيات أدغار آلن بو.
برأيك، ما هي أسباب هذا الانهيار؟ ولماذا يكاد المخرج المسرحي الخلاق يغيب عن المشهد الإبداعي؟
- لعل أسباب هذا الانهيار هي الصراع الأيديولوجي على المستوى السياسي عالمياً، واقتحام التكنولوجيا لتحويل الذاكرة إلى أيقونات معرفية، فعندما يظهر إسخيلوس مسرحياً ومنظّراً جمالياً كبيراً، وألقاً جديداً في معمارية جديدة للمسرح، تحتضنه هندسة القاعات الجامدة التي اخترقتها تصاميم قرون قديمة، فضلاً عن أن المخرج لم يعد مخرجاً مفكراً، ولا يسكنه الجمال بعمق، لأنه يتلامس مع أطروحات الجمال من مسافات بعيدة، إضافة إلى أن أدوات الممثل العربي لم تتطور إلى عالم السحر المدهشة، إلى كتابة العرض جسدياً بلغة الشعر والموسيقى.
وكي نجد المخرج الذي يبحث في ما بعد الفلسفة والفلاسفة، هل ستكون خريطتنا المسرحية من خلال الأطروحات الجمالية أبعد مما طرحه فلاسفة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، تلك الأطروحات التي لا تزال تتكرر وأصبحت لا تلامس اضطراب هذا العصر.
هل يمكنك تحديد اللحظة المعرفية لظهور هذا المخرج؟
- نحن نبحث عن فيلسوف القرن الواحد والعشرين، علينا أن نغلق كل تلك القراءات لتلك الأطروحات التي دونتها القرون الماضية. لقد انغلقت الفلسفة عن آخر فيلسوف، انغلقت أبواب الفلسفة في ستينات القرن العشرين، فالمشهد المسرحي على مستوى العالم لم يظهر صورةً حية في ذاكرة متخيلة، وهذا هو الإنسان؛ تستيقظ الثقافة والفنون عندما تكون هنالك قراءات فلسفية جديدة.
ألا ترى معي أن الإنسان العربي، وخصوصاً الفنان-المسرحي، يقف على باب المدينة، على رغم العمران الخارجي لجغرافيتها، إذ إن الملامح الثقافية والاجتماعية للمدينة لا تحضر في فضائها. وهل يعود ذلك الى عدم امتلاك الإنسان للفلسفة، وهل ان فلسفة ما قبل المدينة كافية لتأهيل هذا الإنسان لدخول المدينة، لنرى بعد ذلك امتلاء قاعات المسارح بالحضور. ثم، ما دور الحكومات، وخصوصاً في الدول النامية، لدفع هذا الإنسان للدخول الحقيقي الى «المدينة»؟
- المدينة والمسرح، رمزان متداخلان. المدينة هي المسرح، والمسرح هو المدينة. هل نبحث عن خطاب تتداخل فيه فضاءات رموز المدينة المشعة بتاريخها وثقافتها وامتداداتها على ذلك الجسد التاريخي أو المعماري؟ هل إن معمارية المدينة هي رمز لثقافة المسرح؟ هذه الأسئلة المتشابكة، وهذا التداخل ما بين الخطابين؛ الخطاب الثقافي والخطاب المديني، شكّل حركة فكرية تبحث عن معنى الوجود الإنساني وسط تلك الأبنية «الكونكريتية» الشاهقة التي تخلق فضاءات الرؤيا.
إن المناخ الذي يتحرك المسرح في داخله ضمن خطاب ما قبل الفلسفة وما بعد الفلسفة، هو معنى اصطلاحي، مغلق ومفتوح في آن. فماذا كانت قراءات الإنسان بعد ظهور الفكر، وما هي قراءات الإنسان الأول؟ فعند أول انفجار كوني في لحظات التكوين، كانت أولى درجات الوعي الإنساني الفلسفي، بمعنى أن الفلسفة انطلقت منذ التكوين الأول؛ أي منذ اصطدام الإنسان القديم بالطبيعة، ونشوء تشظيات واحتراقات عنها قد تؤلم الفلسفة وتؤذيها لأنها تجعل قراءاتها ضمن حجم فكري بدائي أولي، ولكن من خلال هذه الحرارة وهذا الاحتراق تتأسس القراءات المضافة إلى الفلسفة، فينطلق الوعي إلى تأشيرات قرائية جديدة تلتقي بحركة وتسريع.
المسرح محاصَر الآن ما بين جمود الفلسفة وشيخوختها الفلسفية، فهي لم تبث أي إشارات جديدة بعد، أي بمعنى أن النبض الفكري يبقى حركة مستمرة في جسدها، وهذا يعني أنها مهيأة إلى وثوب وانبعاث جديدين، فماذا نرى الآن وسط هذا الكم الفني والثقافي، فحضارة المدينة ليست إشعاعاً ثقافياً بقدر ما هي أبنية وناطحات سحاب ومصاعد قوة انفجارية تحرق الزمن، والانفجار المعماري الحضاري الذي يهندس المدينة، عندما يجيء من أبنية تشع بمراكزها الثقافية التي تستقبل الإنسان في قاعات حرة بعيدة من رقابة الدولة وهيمنتها، كي نستطيع حضور ذلك الخطاب المدني المتقدم ومشاهدته.
ولكن من الصعب جداً أن يتكون هذا الخطاب ويتمظهر الآن. لقد تكونت هندسة الثقافة على المستوى العالمي لقرون لما بعد النهضة، أسست ثقافة معمارية متداخلة ما بين الزمن الفني والأدبي، وبين الرمز المعماري لخريطة المدينة المهندسة معمارياً. والتداخل هنا ديناميك متحرك للآتي الذي نبحث عنه.
* ناقد مسرحي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.