احتفلت الشاعرة والكاتبة المغربية عائشة البصري بمئوية الممثلة السويدية الشهيرة جريتا جاربو، عبر منحها اسم روايتها الأخيرة «حفيدات جريتا جاربو»، (الدار المصرية اللبنانية). جاربو، المولودة في أيلول (سبتمبر) 1905، احتلت مكانة كبرى في السينما العالمية من خلال 25 فيلماً على مدار 15 عاماً فقط، فوجئ العالم بعدها بقرارها اعتزال التمثيل وهي في سن السادسة والثلاثين، لتغلف ما بقي من عمرها بحالة من الغموض والسرية حتى رحيلها في 28 نيسان (ابريل) 1990. لكن حضور جريتا جاربو في الرواية ذات الأبعاد النفسية لا يزيد على كونه مجرد كائن من الممكن استبداله بفرجينيا وولف القريبة من أجواء هذا النص. فالرواية تقوم على شخصية رئيسية تعاني حالة من الازدواج الجنسي والتي تعرف في الأوساط الشعبية بالخنثى، فضلاً عن حالة الانفصام التي تجعله يتخيل نفسه طبيباً نفسياً يقوم بمعالجة كل نزلاء المستشفى رغم أنه محض مريض يعالج مثلهم، لكنه ينسب نفسه إلى جريتا جاربو معضداً أسطورته بصورة تحمله فيها وهو طفل على كتفها، رافضاً الحقيقة القائلة بأن جاربو كانت تروج لأحد أفلامها عبر اللقاء بأطفال أحد ملاجئ الحرب الأهلية الإسبانية وأن حظه السعيد أو التعيس جعله في الصف الأول فحملته لالتقاط الصورة الترويجية. جاءت الرواية في 180 صفحة من القطع المتوسط، وقسَّمتها الكاتبة على تسعة فصول حملت أرقام غرف نزيلات «مشفى اللهة للأمراض العصبية والنفسية»، ولم تتوقف أمام جريتا جاربو بشيء يذكر سوى أمر الصورة المتخيل، لكنها بحثت في حياة عدد من النماذج النسائية التي أودت بها ظروفها القاسية لدخول المستشفى، نماذج انتمت إلى مختلف الطبقات والفئات في المجتمع، بدءاً من الكاتبة، مروراً بالمناضلة سكرتيرة الوزير، والكسَّالة أو المدلكة، وصولاً إلى شخصيات افتراضية كشخصية المرأة في الرواية عموماً. وبطبيعة الحال، كن جميعاً يعانين أمراضاً نفسية تعود في مجملها إلى القهر المجتمعي لمصلحة الرجل وتحويله لها إلى سلعة أو دمية يستغلها كما يشاء في نزواته وحروبه ومقايضاً بها أو عليها في كثير من الأحيان. وجاءت الشخوص نماذج لتمثيل هذه الأفكار والتدليل عليها، كما حدث لامرأة رجل الغابة الذي همَّشها حتى قتلته، والمناضلة التي وُضعت منذ طفولتها في السجن وحين خرجت وجدت زملاءها يفاوضون الحكومة عنها دون إذنها، والكسَّالة التي تزوجت وهي لا تزال طفلة ليستغلها زوجها العجوز وشقيقته في عمليهما بالسحر والشعوذة، وينتهي حالها بأن يسكن جسدها الجني الذي يخدمه والمسمى «الباشا حمو»، والكاتبة المطلقة التي تعاني ذكرى رجال تركوا بصماتهم على شريط العمر، وتعمل على كتابة رواية بعنوان «مقتطفات من ذاكرة مفقودة» وهو مدخل قوي ومهم لقراءة هذه الرواية. احتلت شخصية خوان رودريكو، دور البطولة رغم أنها الوحيدة التي بلا مكان في النص، فقد جاءت كفواصل بين الفصول، وتمركز دورها كمعالج في سؤال الشخصية عن اسمها، ما يجعلها تبدأ في الحكي من دون أن نعرف لها اسماً محدداً. فدائماً ما تعددت المراحل والأسماء التي بلا معنى في ظل التهميش الذي تعيشه الشخصية. ولا تفصح الكاتبة عن تعريف حقيقي بالشخصية البطل إلا في الصفحات الثلاث الأخيرة في النص. فنعرف من مذكرات «الأم تيريزا»؛ رئيسة «دير الأخوات المكرسات»، أنه حفيد يهودي إيطالي كان يعمل قنصلاً لبلاده في الأرجنتين، ويدعى أنطونيو، وقد أسلم ليتزوج فتاة مغربية. أما الحفيد، فاسمه في شهادة الميلاد محمد، لكن تم تعميده في الدير باسم خوان رودريكو أميَّة، ما يذكرنا بأسماء الموريسكيين التي جمعت بين الأسماء العربية والإسبانية، فضلاً عن أنه يتفق مع حال الازدواج التي يعانيها «خوان»، كشخصية روائية. جمعت الرواية في طياتها بين عدد من القضايا المهمة، في مقدمها الكتابة النسوية وانشغالاتها وحضورها، وهو ما سعت الكاتبة لرصده من خلال الشخصية الأولى؛ الكاتبة، وإن كان تأثير فرجينيا وولف واضحاً من خلال انتماء هذا النص إلى ما عرف بتيار الوعي. فضلاً عن أن فرجينيا وولف كانت أول من أسس لما عرف بالكتابة النسوية، ومن ثم كان يجدر بعنوان هذه الرواية أن يكون «حفيدات فرجينيا وولف». واهتمت الكاتبة بقضية المثلية الجنسية وما تسببه لصاحبها من آلام نفسية وتصورات فكرية. فشخصية «خوان» كانت مزيجاً بين المرأة والرجل، وعاشت حياتها تعاني من الصراع النفسي بينهما، إذ إنها تنتمي من الخارج إلى الرجال، في حين أنها نفسياً وعاطفياً تنتمي إلى النساء. وهو أمر يستحق التوقف أمامه إبداعياً لما يمثله أمر الازدواج من صعوبة في التعايش النفسي، وشخصية خوان بما تمثله من اختلاط سواء بين الذكورة والأنوثة أو بين الشرق والغرب، حيث الأم المغربية والأب الإيطالي، فضلاً عن كونه يهودياً. يعد هذا التزاوج بين النقائض هو القضية غير المعلنة، وما سينتج عن هذا التزاوج سيكون مصيره ما يعانيه «خوان» من صراع نفسي بين الذكورة والأنوثة، وكأن الكاتبة تؤكد من جديد أن الشرق سيظل شرقاً والغرب غرباً، وأنه لا بد من وضوح العلاقة والماهية والجنس، كي لا تحدث مأساة الصراع النفسي الذي ينتهي بالانتحار، ومن ثم فإنها تنتصر للنسوية رغم أنها الطرف الأضعف لكنها حل أفضل من الاختلاط الذي لا ينتج سوى الازدواج. تمتعت «حفيدات جريتا جاربو» بلغة جزلة لا تخلو من معرفة ثقافية عالية رغم تنوع الشخصيات وانتماءاتها الطبقية في المجتمع، وافتقدت إلى وجود صراع درامي يمزج الأحداث مع بعضها، فبدت فصولها كما لو أنها متتالية قصصية، فضلاً عن حرص الكاتبة على الغموض الزائد حتى الفصل قبل الأخير، وهو ما يفقد القارئ خيط التواصل مع النص، ومعرفة الحدث المركزي الذي تدور حوله الرواية. لكن ذلك لا يمنع من حضور نص قوي، قام على رصد عدد من الظواهر النفسية التي تعانيها المرأة في المجتمعات الحديثة، وأغلبها ناتج من القهر الذكوري وعدم رغبته في المشاركة الفاعلة للمرأة في المجتمع، وكأن شهرزاد الحديثة ما زالت ترصد ما كانت ترصده شهرزاد القديمة عن بني جنسها، ليس لشهريار مكتمل الذكورة ولكن لخوان الذي يعيش صراعاً ما بين الذكورة والأنوثة في جسد واحد.