يجمع أمين الزاوي في روايته «قبل الحب بقليل» (منشورات ضفاف والاختلاف) هجاء نظام وحب مدينة وافتتاناً بامرأة، عبر طبقات قصصية حيوية تستمد طاقتها من تغيّر الملامح السياسية- الاجتماعية، ومناخ سردي واقعي سحري وسوريالي تخييلي. تسجّل الرواية فساد عهد هواري بومدين، الذي لُقّب «موسطاش»، لاهتمامه بشاربيه واغتيال أحد رفاقه المعارضين. تسود الصور، لا الأحداث، غالباً لتروي قصة وهران وفضائها وبعض أبنائها. ويعنى الكاتب بالتفاصيل الصغيرة بثرثرة، كاذبة أحياناً، تبني أسطورة شخصيات ثانوية وحياتها الأكبر من الحياة العادية، المعقولة. تبدأ الرواية وتنتهي بسارة تتمدد بجسدها «المصبوب من عسل الغواية» على سرير بائس في غرفة هابيل، المخصصة أساساً للغسيل في «فندق المهاجرين» في وهران. أقامت فيه أولاً العائلات الجزائرية العائدة من فرنسا، مدفوعة بوطنيتها، ففقدت كل ما ملكته في بلاد المستعمر السابق، ولم تتحقّق أحلامها لدى عودتها، فبقيت في الفندق الذي لا تتوافر فيه أدنى شروط الحياة. يقول كريمو، موظف الاستقبال، في الصفحة 107: «هذه البلاد لا تتوقف عن توزيع الأحلام الكاذبة (...) منذ أول يوم للاستقلال». درس هابيل الحقوق، وامتهن بيع الكتب المستعملة حين وجد صندوقين مليئين بها مرميين في الشارع. يلاحظ أن «كل الناس تبحث عن رواية «الطاعون»، إنهم مغرمون بالجرذان أو يخشون عودتها إلى المدينة»، في الصفحة 82. اتسخت وهران وشاخت منذ قدومه إليها، ولم تعد المدينة الكوزموبوليتية، المتعددة اللغات والأديان والبشر والثقافات، التي آوت بنات الهوى فيها كُتّاباً وفنانين جزائريين وأوروبيين، وخبّأن المقاومين والهاربين من استبداد الاستعمار. يحب هابيل روائحها التي لا توجد في أي مدينة أخرى، ويغادرها البابا سليمان، والده البديل وحارس المرأب، مرة واحدة ليحضر حفلاً في سيدي بلعباس، لكنه يحس بخيانة مدينته ويعود فجراً إليها. يحب أجانبها وتَجاوُرَ الديانات الثلاث فيها، لكنها تتغير دفعة واحدة في عهد خليفة بومدين مع ظهور رجال باللحى والزي الأفغاني، ونشرهم ثقافة العنف والخطاب المتشنج. تزحف شرطة أخلاقهم كجرذان «الطاعون» لألبير كامو، وتمنعه من بيع كتبه المضادة للشريعة. لكنّ التطرّف الديني الطارئ لم يعنِ التدين بالضرورة، بحيث نجد عاملة النظافة المحجبة في الفندق تحب الجلوس في حضن كريمو وتهوى مداعباته. حب الثورة كان البابا سليمان في العشرين عمل في مخبز دانييل ديفا، الفرنسية الإسبانية، التي علّمته لغتها وعشقته. أيّدت مقاومي الاستعمار الى درجة علينا أن نصدّق معها أنها صرخت: «عاشت الجزائر» في ذروة نومها مع سليمان (الصفحة 95). انتقم مؤيدو الاحتلال الفرنسي بإلقاء شقيقها حيّاً في فرن المخبز فماتت من الصدمة. عوّضت المرأة عن خسارة والدها الذي أعدمه الفاشيون بالتعبير غير الطبيعي عن حبّها شقيقَها، فنامت معه في سرير واحد وجلست في حضنه ليطعمها، ورفضت زواجه لأنه ملكها. الإشارة الأكثر صراحة الى حب المحارم تتعلّق بهابيل وابنة شقيقته هاجر، لكنها لا توضح إذا بلغت العلاقة الكاملة. مقابل ذلك، يمارس بعض إخوة «الجنرال» وأخواته حب المحارم، فاضطر والدهم الى تزويجهم من خارج الأسرة، وخارج صلة الدم التي هجس بها، ما أدى الى إصابته بحال هستيرية تسبّبت بوفاته. ينال «هيتشكوك» شعبية واسعة بفضل برنامج تلفزيوني، ويحلم بشهرة عالمية وإخراج فيلم عن الثورة والطاهر بن مريم السوفي، الذي حلّل شرب النبيذ لإنقاذ الاقتصاد الوطني بعد الاستقلال. يفكر أيضاً بفيلم عن والدته الشابة التي كانت تذهب يومياً الى الفرن لثلاثة أعوام كي تتلقى مكالمة غريبة من رجل تصغي إليه ولا تقول كلمة واحدة. لا يكتشف سرّ الاتصال، ويعشق شاباً النساء في عمرها. يجد نفسه في سرير ليلى بنت عبدالله بوسعد، خياط وهران وشاعرها، والمجاهد الذي سجن وعُذّب. أحبّته ورعته مثل أم، لكنها خاطبته بالعربية الفصحى وأنهكته بشهوتها، وأنجبت ثلاثة أطفال في أربعة أعوام. حين شاهد «السيدة تختفي» لألفرد هيتشكوك غادر بيته نهائياً ونزل في «فندق المهاجرين». كتب ليلاً، فظنّ من سمع آلته في العهد الجديد المتطرّف أنه يتآمر فاغتالوه. انقلاب يتعرف هابيل على «الجنرال» السي سفيان يوم ذكرى انقلاب هواري بومدين على أحمد بن بلة، أول رؤساء الاستقلال، الذي كان دائماً يوماً ضبابياً كيوم القيامة، علامة على لعنة ضد بومدين، الصفحة 111. كلّفه كتابة مذكراته وهو حانق من تهجير الانقلاب خيرة مثقفي البلاد. ظنها هابيل مذكرات عن الثورة تُراد عبرة للأجيال الشابة، وإذا بالرجل يثرثر عن والده الذي تزوج ثلاث عشرة امرأة، وفكر بتأسيس سلطنة صغيرة لنسله، وعن هرره الخمس وخمسين وكلابه وأمراض الشجر في حديقته الواسعة الأشبه بجنة على الأرض. لا ذكر للمعارك التي يُفترض أن يكون مقاوم خاضها، بل مكافأته بدارة الحاكم الفرنسي السابق مقابل صمته عن اغتيال أحد قادة الثورة السابقين، وجدع أنف جندي خالف منع التدخين بشمّ التبغ. يتحرّر الزاوي من السرد المستقيم باستخدام النساء، وأولهن سارة، ليلعب ويصنع فضاء سوريالياً، مهلوساً، يختلط فيه الواقعي والخيالي، والشك واليقين، ويبقى عاطفياً بعيداً من القارئ وإن شحذ قدرة الكاتب الابتكارية. في الصفحة 27 تظهر سارة التي تمضي معظم نهارها، كل يوم، على الطريق، مع كتاب، حتى لُقّبت «مولاة الطريق». نالت البكالوريا، وتعلمت الإنكليزية من برنامج هيئة الإذاعة البريطانية، ونزلت الى الشارع. هل كانت تنتظر الرسالة التي رماها سائق شاحنة يوماً؟ كانت تحصي النمل والشاحنات، وتكلّم الفراشات والذباب قبل رسالته، ولم تعد تفعل. ظهر بعد شهر وصعدت الى شاحنته، وكان كما تخيلت طويلاً،عريض الكتفين، كبير القدمين واسمه إبراهيم. أخذها الى وهران فتحب حرية الغربة والفردية فيها، وترغب في أن تكون هي لا الآخرين. يركن الشاحنة في المبنى الكولونيالي الجميل الذي يحرسه البابا سليمان، ويضع ثلاثة كؤوس على المائدة لاثنين. كريمو سيكرّر الفعل نفسه من دون تفسير أيضاً، وبعد اختفاء إبراهيم في منطقة قطّاع الطرق تنتظره سارة على الشرفة، ويتساءل هابيل إذا كان يرى امرأة هناك. هل سارة امرأة واحدة، وهل هي موجودة؟ في بيت «الجنرال» يُخيَّل لهابيل أنه يشاهد امرأة تجلس على كرسي بثلاث قوائم تشرب من كأس. حين تظهر ثانية تبدو أقصر ثم أطول قامة وتحمل كيساً بلاستيكياً فيه سمكة حمراء. تقول إنها الزوجة الثانية للعسكري، اسمها سارة، وعملت مضيفة طائرة. تنام مع هابيل، ثم تتغير ملامحها لتشبه ابنة شقيقته هاجر (الصفحة 250). حين يغادر الى بيروت الشبيهة بوهران، يتساءل إذا كانت سارة مضيفة الطائرة، لتَشابُه صوتيهما. والد السي سفيان لم يستطع النوم مع زوجته المفضلة لأنها كانت حورية وستنتظره في الجنة التي ستحررهما من العائق. السي سفيان لا يشارك سارة السرير قائلاً إنها حورية مثل أمه.