«الرجل في البذلة البيضاء»، هو عنوان الرواية، السيرة الذاتية، للكاتبة الأميركية لوسيت لاغنادو. صدرت الرواية في الولاياتالمتحدة عن دار «هاربر كولينز». كانت الكاتبة ولدت في أسرة يهودية في القاهرة عام 1958. وفي سن السادسة اضطرت عائلتها إلى الرحيل عن مصر والانتقال إلى أميركا. تحكي الرواية عن الشوق الحارق الذي بقي تحت الجلد إلى القاهرة التي كانت، بالنسبة الى العائلة، فردوساً حقيقياً. في سرد حار ومؤثر تحاول الكاتبة العثور على ذلك الفردوس المفقود الذي ضاع في لحظة مجنونة من الزمن. سرد نوستالجي، جياش، بعيداً من الافتعال والميلودراما، عن حياة تحطمت مرة وإلى الأبد. على طول الصفحات الثلاثمئة والستين، تحتفل الكاتبة بالبهاء المنقطع النظير للقاهرة في الفترة ما بين الحرب العالمية الثانية وصعود جمال عبدالناصر إلى سدة الحكم إثر انقلاب عسكري. القاهرة المنفتحة، الكوسموبوليتية، المتعددة الأوجه واللغات والثقافات. كان والدها، ليون لاغنادو، رجل أعمال ناجحاً، محباً للحياة، مغرماً بالقاهرة، يحب لياليها وشوارعها. ولكن مع سقوط الملك فاروق عن العرش واستلام العسكر السلطة، لاحت في الأجواء نذر كارثة أكيدة. عمد الضابط جمال عبدالناصر إلى تأميم الصناعة والتجارة، ففقدت عائلة لاغنادو، شأن عائلات كثيرة أخرى، كل شيء. تم تبديل أسماء الشوارع ومورس الضغط على الجاليات الأجنبية، اليونانية والإيطالية والفرنسية وسواها، وتعرض اليهود إلى القمع وجرى إخطارهم بضرورة الخروج من البلاد. عبأت العائلة 26 حقيبة كبيرة بما خفّ حمله وغلا ثمنه من متاع وخبأت المجوهرات والقطع النقدية في علب المربى المحكمة الإغلاق وغادرت القاهرة إلى أي بلد يمكن أن يستقبل أفرادها. لم يتوجهوا إلى إسرائيل، التي كانت على مرمى حجر منهم، وكانت على أهبة الاستعداد لاستقبالهم، بل أرادوا المضي إلى مكان آخر وحط بهم المقام في باريس. هناك في فندق متواضع أخذوا يفكرون بما يترتب عليهم فعله. أخيراً قرروا الرحيل إلى الولاياتالمتحدة. هذه رواية، سيرة، أنشودة، عن ذلك الزمن الحائر الذي امتلأ بالغضب والقسوة والمظالم بحيث وجد الجميع أنفسهم في دوامة من الانكسار والخيبة والتهشم على صخور السياسة الرعناء، من دون أي التفات إلى الإنسان وروحه ومشاعره وأحلامه. حينذاك، رحل الفلسطينيون عن القدس وحيفا ويافا وتشتتوا في كل حدب وصوب. وحينذاك، أيضاً، رحل اليهود عن القاهرة ودمشق وبيروت وحلب وتونس. كانت المأساة تتجول هنا وهناك. مأساة تليها أخرى في ولادة مستمرة مصحوبة بنزيف موجع للأحلام والآمال. انقلبت حياة ليون من الجنة إلى الجحيم. برحيله عن القاهرة، غدا مثل شجرة اقتُلعت من جذورها وراحت تدور وهي تبحث عن تربة جديدة تستقر فيها. كانت له أسرة وبيت وجيران وأصدقاء وأعمال في القاهرة، فانتهى به الحال في باريس ومن ثم في نيويورك متشرداً، وحيداً، حزيناً، يبحث عن مكان يبيت فيه ويحمي أفراد أسرته ويتدبر لقمة العيش لهم ولنفسه. تحول من رجل أعمال ناجح إلى بائع متجول في شوارع بروكلين. رحل عن القاهرة ولكنه حمل القاهرة معه. كل أفراد العائلة أخذوا قاهرتهم معهم. أخذوا معهم أصواتها وهواءها ورائحتها وصخب ناسها. أخذوا ملامح أصدقائهم ونبراتهم وهمساتهم بعدما أخفوها في أعماقهم. أخذوا غناء أم كلثوم، والأكيد أنهم أخذوا اللغة العربية، واللهجة المصرية على وجه الخصوص. في الكنيس اليهودي في بروكلين أخذوا يرددون المزامير باللغة العربية. ظل ليون يردد لموظفة المعونات الاجتماعية: نحن عرب يا سيدتي. وكان يكرر: «الله أكبر». كل الذين رحلوا عن القاهرة بقوا يتصرفون كما لو كانوا لا يزالون في القاهرة. يأكلون ويلبسون ويحكون ويتناقشون وكأنهم في القاهرة. لم يصدق ليون قط أنه لن يرجع إلى القاهرة. كان يعتقد أن الأمر عارض وأن الغم سيزول وسيرجع إلى مدينته التي أحبها حد الوله. وهو بقي يصمد ويصبر ويتمالك نفسه ساعياً إلى قهر الغربة والتفوق على عذاب الحنين. المرة الوحيدة التي أجهش فيها بالبكاء كانت حين توسل إلى الطبيب كي يعالج ابنته لوسيت التي أصابها المرض. مع مرور الوقت أخذ الضعف يتسرب إليه. بدأ يشعر أكثر فأكثر بوطأة المنفى وهول الغياب. بات يقضي جلّ وقته في البيت أو الكنيس يقرأ ويتأمل، متوحداً، عازلاً نفسه عن محيطه. ومات. أغمض عينيه للمرة الأخيرة ولعله كان يرى صورة القاهرة في فضاء الغرفة الموحشة. بعدما توفي أبوها عادت لوسيت إلى القاهرة وزارت بيت الأسرة والأماكن التي كان الوالد يتردد إليها. كان البيت المهجور الذي بالكاد تعرفت إليه قد ولدت فيه وبلغت السادسة من عمرها قبل أن تغادره. عندما ركبت سيارة الأجرة وغادرت البيت ألقت نظرة أخيرة وشعرت لوهلة أن الجميع، والدها وأمها وأخوتها، واقفون على «البلكون» ينظرون إليها. اغرورقت عيناها بالدموع. الرواية هنا هي ذلك النص الحميمي الذي يروي قصة الاقتلاع من مسقط الرأس في بوح سريري أشبه بالتطهر. إنها تصفية حساب مع ذكريات عارمة ترقد في الأعماق. بحث عن الزمن الذي مضى وأخذ كل شيء معه. بحث عن الأقارب والجيران والأصدقاء الذين كانوا يعيشون في هدوء وطمأنينة من دون أن يخطر في بالهم أنهم سيضطرون إلى الرحيل عن أماكن عيشهم إلى الأبد. في الولاياتالمتحدة لم تكن نيويورك خاتمة الأحزان، بل بالعكس بداياتها. تفكك شمل العائلة. هربت أختها من البيت ولم تعد. خيّم الحزن على الأب والأم وباتا كمن ينتظران قطاراً غادر المحطة تواً في آخر رحلة. بهذه الرواية، الوثائقية، التي تغوص عميقاً في النفس، تستعيد الكاتبة الذكريات الآسرة عن والدها، ليون لاغنادو، وأمها، أديث ماتالون، التي تنحدر من أسرة يهودية حلبية قدمت من سورية إلى القاهرة. كانت ثمة صورة للعائلة التقطت قبل أن تولد الكاتبة. أمها جالسة إلى الطاولة وعلى وجهها ابتسامة غامضة. أبوها بالقرب منها يرتدي الطربوش الذي كان يشكل علامة على الطبقة الأرستقراطية المصرية. بينهما أختها وأخوها. لطالما نظرت إلى الصورة وشعرت بالغيرة وتمنت لو أنها استطاعت التسلل إلى الجمع والجلوس إليهم. لقد سيطرت عليها فكرة أن كل ما هو جميل في حياة عائلتها حدث قبل أن تأتي هي إلى الدنيا، وكل ما هو مأسوي وقع بعدما ولدت. اليهود الذين غادروا الشرق الأوسط ورحلوا إلى نيويورك سكنوا في أحياء متجاورة. كان من السهل على الكاتبة أن تنتقل من الحي المصري إلى الحي السوري ومن الحي الإيراني إلى الحي المغربي. أما المحال التي انتظمت على جنبات الشوارع فقد حملت ملامح الأحياء العربية التي قدم مالكوها منها. كانت لوسيت ترتاد مع الوالد محل إسحق منصورة الذي حين رحل عن القاهرة وسكن في بروكلين افتتح محلاً جديداً بالاسم القاهري الذي كان له هناك. مات إسحق منصورة وخلفه في العمل أبناؤه وأحفاده. أخذوا يغيّرون طابعه الشرقي وأخذت السمات الأميركية تتسرب إليه. في النص حياة صاخبة كالحياة التي كان الراحلون يعيشونها في بلدانهم الأم. قصص وحكايات عن ناس كان يمكنهم أن يستمروا في الأماكن التي ارتبطت بأحلامهم لو لم تتفوق الحسابات اللئيمة للسياسات الخاطئة لحكام حملوا البشر على محمل المقايضة. ليليان شالوم، واحدة ممن تلاعبوا بحياتها وأجبروها على أن ترحل إلى حيث لا تريد. بقي الحنين إلى الشرق يخنقها أنّى رحلت. تقول ليليان: «لقد فهمت المجتمع الأميركي إلى حد كبير واندمجت فيه في شكل عميق، غير أنني أشعر أن أميركا لم تستطع ولن تستطيع أبداً أن تسلبني روحي الشرقية. انا يهودية، لكنني يهودية مصرية، سأبقى كذلك إلى أن أموت.