ليس المخرج الفلسطيني علاء العلي الممنوع من الإقامة في السويد سوى حالة بين عشرات الحالات التي يعاني منها «فلسطينيولبنان» اليوم، إذ لم يعد يُقبل لجوءهم الإنساني هنا، لأن لبنان بحسب قوانين الهجرة السويدية أضحى «بلداً آمناً»، وبالتالي ليس ممكناً قبول لجوء الفلسطينيين الآتين منه. لذا فإن علاء العلي يمضي أيامه وهو ينتظر ترحيلاً «مؤجلاً» بعد أن جرى تصنيفه في فئة «خارج المواطن» الذي يستحق أن يتواجد على الكوكب. يقول العلي ضاحكاً إن هذا التصنيف غريب، فقد سمع ب»دون مواطنية» مثلاً، ولم يكن يدرك أن القوانين المطاطة التي تتعاطى بها سلطات الهجرة السويدية يمكنها أن تجد حلولاً ناجعة لمثل حالته، وهو ما زال يتأرجح في الهواء فعلياً بعد أن قصد مملكة السويد للعيش والعمل فيها، ولم يعد بوسعه الانتقال منها إلى أي بلد أوروبي، لأن «بصمة» السويد لا تتخطاها أو «تكسرها» دول الاتحاد الأوروبي. علاء العلي كان قد قدم من قبل في مشروعه الوثائقي الأول عام 2012 («رسائل إلى أحمد»)، مدخلاً إلى مخيم شاتيلا من خلال كاميرا تقرأ في كتابة محمود درويش عن القهوة. هنا تبدو لديه المتابعة الحثيثة للكاميرا في أزقة المخيم المعتمة والضيقة لبائعي القهوة المنتشرين فيها، ولمحل بيع القهوة، وكأنها مدخل إلى مزاج صباحي «غاشم» يعكس كل تلك الصور في بقعة لا تزال تترنح على وقع التهميش والإقصاء الذي يمارس بحق مخيمات اللجوء في لبنان، حتى أن فلسطينييها أصبحوا بالفعل «خارج أي مواطنية « أو هوية تتيح للساكنين والمقيمين فيها أن يبلغوا بر الأمان على صعيد التعليم والطبابة والتفاهم مع المحيط والعيش الكريم. أتت رسالة المخرج إلى أحمد قصيرة نسبياً، تحمل لغة تهكمية تتناسب مع أوضاع المخيم الفلسطيني. وعلى أية حال لم يكن ممكناً لها إلا أن تعكس هذا المزاج الساخر الذي جاءت به بعد أن بلغت الأوضاع هناك حالة مزرية وسيئة. لن يكون أحمد الذي يتلقى الرسالة التهكمية المزينة بأحاديث عابرة من محمود درويش وادوارد سعيد إلا محاولة تشخيص غائبة لخلخلة هذا البناء المتصدع أصلاً، والذي لا يحتوي أياً من الوجوه التي قد نتوقعها في مثل مخيم كهذا. فخ اللغة! ربما أراد العلي أن يركز في ذلك الفيلم على فخ اللغة في الرسالة أكثر من التوغل في الوجوه التي يبحث عنها المخرجون حين يصلون إلى مخيم لجوء فلسطيني. أما بذور فيلمه القصير الجديد «رحلة كنباية»، الذي يتنقل اليوم بين مهرجانات السينما، فتتواجد في أحشاء الرسالة بالغة التهكم. يستغرب العلي كيف يمكن عائلة أحمد أن تدخل تلك الثلاجة عبر هذا الدرج الضيق. يقول إنه يكاد يجن. سؤال يبدو أنه يختصر حالة الكون بالنسبة لهذه البقعة الجغرافية الضيقة التي لا تدخل في حسابات أحد. من السؤال يبني المخرج العلي فيلمه الثاني. كان يريد لرحلة «الكنباية» الزهرية اللون أن تجول في أزقة مخيم عين الحلوة الضيقة لتصل إلى بيت ليس مهماً من يقيم فيه طالما تكمن الفكرة في الالتفاف على عملية الوصول. والمحور هنا هو الحصول على تصريح من الدولة اللبنانية لإدخال «عفش» جديد إلى هذا المخيم حتى لو كان بحجم «كنباية» وهو أمر مضن وثقيل، فما بالك بملاحقة الكنباية بكاميرا رقمية يحملها أجنبي ما قد تثير الريبة، وبخاصة أن «الرفيق ماركو قد جمع لنا مبلغاً صغيراً من الأصدقاء الطليان وقام بتصوير المشاهد أثناء تواجده في لبنان». يقول العلي إن نقل مكان التصوير إلى مخيم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين خفف من هذا الاحتكاك مع السلطة اللبنانية، وربما أفاد فكرة الفيلم، لأن «زواريب « البرج ضيقة أكثر، وتغطي فكرة «الجنون» الإنساني في دفع أثاث محمول من شخصين يقضيان الوقت بمحاولة إيصاله للبيت عبر مداخل المخيم الضيقة. ما سيكشف لهما في النهاية وعلى رغم هذا العناء، أن الكنباية المطلوبة لونها كحلي. توارد... صور؟ يقول علاء العلي رداً على سؤال، إنه لم يشاهد فيلم التخرج الشهير «رجلان مع خزانة» للمخرج رومان بولانسكي (1959) والذي يدور حول شخصين يحملان خزانة ويقضيان الوقت في محاولة تنقيلها في حياتهما اليومية، وحتى حين يتواعد أحدهما مع امرأة يصر على حمل الخزانة إلى الموعد الغرامي. بالتأكيد أزقة المخيمات الفلسطينية في لبنان تحمل هموماً وجودية أكبر، في محاولات تصويرها أقسى حالات العبث الإنساني التي لم ينطلق من أجلها فيلم بولانسكي، وان ترك تأثيرات واضحة على أفلام كثيرة من بعده. المخرج علاء العلي الذي يقيم «خارج المواطن» يقدم «تريلر» مشروعه الجديد («خارج المكان») المستوحى من كتابات ادوارد سعيد. يقول إن أفلامه عن الأمكنة التي قدم منها إلى السويد، لم تشفع له عند السلطات السويدية، كما أنها لم تشفع له عند أبيه الذي يراقبه ساخراً، ويقول له أن يواصل تظاهره «بالعمل من أجل فلسطين، وأنت لا تعلم أن آخر يوم قد عشناه في حيفا كان ذلك في عام 1948». ليس بوسع المخرج الفلسطيني – اللبناني علاء العلي الإجابة على تعليقات أبيه الساخرة، على رغم أن فيلميه يطفحان بالسخرية المرة. كما أنه لا يصدق أن جده علي قد جاء إلى لبنان يافعاً، وعشق أجمل فتياته، وحين منعت عنه، عاد إلى فلسطين، واستعان بساحر، فلحقت به بفعل السحر. لا يصدق كل تلك الرواية. يعرف أنه الحب هو ما دفع بها للحاق به، ولم يكن ذلك بفعل السحر. هل تحمل تلك القصة مضمون مشروعه الجديد، الذي قد لا يقنع سلطات الهجرة السويدية برواية يتشكك بها المخرج نفسه، لكنه يعرف أنه محكوم في كل لحظة بإدخال «كنباية» في حياته، ومع شعوره بالخطر الفعلي يمكنه أن ينتقل بها في أكثر الأمكنة ضيقاً، حتى لو كانت في اللجوء الفعلي إلى الشرطة السويدية التي تنتظر الإيقاع به وترحيله. في لقائه الأخير مع دائرة الهجرة الذي تزامن مع اعتراف مملكة السويد بدولة فلسطين، قال العلي لهم إنه مستعد لمغادرة السويد إلى فلسطين حصراً. كان يدرك إن ذلك يتطلب معجزة وساحراً أكبر من ذلك الذي توافر لمحبوبة جده، فزمن السحر والمعجزات قد ولَّى، وليس المكان الذي قد يُّرحَّل إليه علاء العلي أكثر من معجزة في بقائه آمناً اليوم، في ما تشتعل النيران من حوله، وتكاد تحرق كل شيء.