تحول الحوار الوطني الذي أطلقه خادم الحرمين الشريفين قبل سنوات إلى مجلس لتدارس مشكلات خدماتية. هذا يعني بالنسبة لي أن المجلس قد حول نفسه بنفسه من جهة ذات هدف وطني خاص محكوم بإطار زمني إلى مؤسسة برلمانية عامة تضم أناساً غير منتخبين، تعمل تحت شروط وأحكام لا تختلف كثيراً عن شروط وأحكام مجلس الشورى. الفارق الكبير الذي يمكن تمييزه ما بين مجلس الشورى ومجلس نواب الحوار الوطني هو أن دورة حياة بقاء أعضاء الثاني في الصورة البرلمانية قصيرة جداً قياساً بأعضاء المجلس الأول! هل في هذا التحول مشكلة؟ لا مشكلة أبداً ما دام الوطن هو المستفيد في نهاية الأمر. الدورة الثامنة للحوار الوطني اختتمت في نجران قبل أيام قلائل، وخرج المؤتمرون بعدد من التوصيات التي تتعلق بالخدمات الصحية في المملكة العربية السعودية. اجتمع «الناس غير المنتخبين» في نهاية الحوار، وأمطروا مسؤولي الصحة في البلد ب «حزمة» من التوصيات المتعلقة بالصحة والمرض. شكر مسؤولو الصحة الناس غير المنتخبين على حسهم الوطني ووعدوهم بالنظر في توصياتهم من أجل الوصول بالخدمات الطبية في المملكة إلى مستوى يليق بالحالة الاقتصادية التي نعيشها. هل في هذا مشكلة؟ لا مشكلة في ذلك، ففي النهاية سواء أكان الحوار الوطني من أجل إزالة العوائق الفكرية والمذهبية والطائفية والاجتماعية التي تفرق السعوديين ولا تجمعهم، أو كان من أجل تدارس مشكلات البلد الخدماتية ورفع توصيات بشأنها إلى صانعي القرار، فالنتائج تصب في بحر مصلحة السعودية. لكن كوني مهتماً بالجانبين: الحوار الفكري ما بين «ناس» السعودية، والمجالس التي تحمل صوت الناس إلى قادتهم، فإنني سأفترض أن المسؤولين عن مركز الحوار الوطني قرروا أن دور المركز في تفعيل الحوار الوطني قد انتهى، لذلك انتقلوا أوتوماتيكياً إلى مرحلة أخرى من مراحل خدمة الوطن. وسأفترض أيضاً أنني لا أوافقهم على هذا القرار، وبالتالي سأطرح لهم هنا «حزمة» من الأفكار التي قد تعينهم على أداء عملهم إذا ما قرروا العودة مرة أخرى إلى الحوار الوطني اقتناعاً بكلامي. ثم سأطرح أيضاً في نهاية المقال حزمة أخرى من التوصيات التي من الممكن أن يستعين بها اخوتي في مركز الحوار الوطني عندما «يتقرر» الانتقال فعلياً إلى مجلس الحوار الوطني الشعبي المختص بالمساءلة والتوصيات. أولاً: يقوم مركز الحوار الوطني حالياً بنشاطات كثيرة تدعم المبادرة التي أطلقها خادم الحرمين الشريفين لتفعيل الحوار ما بين المواطنين على اختلاف مرجعياتهم وخلفياتهم الأيديولوجية والاجتماعية، ويكفي أن يلقي الزائر نظرة صغيرة على موقع مركز الحوار الوطني ليعرف حجم العمل الذي يقوم به رجال المركز من أجل نشر ثقافة الحوار والتسامح بين فئات المجتمع المختلفة، لكن بما أن اللقاءات السنوية – على غرار لقاء نجران – هي حجر التاج في عمل المركز، وهي الأساس الذي قامت عليه بناءات المركز، فإنها هي التي تحظى بالضوء أكثر وينم تحليل نتائجها إعلامياً بشكل أوسع. ثانياً: تحولت العناوين الرئيسية للقاءات المركز مع مرور السنوات، من لقاءات تدعم الحوار إلى لقاءات تعالج الخدمات. فمن اللقاء الوطني الأول الذي حمل عنوان «الوحدة الوطنية والعلاقات والمواثيق الدولية»، مروراً باللقاء الوطني الثاني «الغلو والاعتدال. .. رؤية منهجية شاملة»، واللقاء الوطني الثالث «المرأة... حقوقها وواجباتها»، واللقاء الوطني الرابع «قضايا الشباب... الواقع والتطلعات»، واللقاء الوطني الخامس «نحن والآخر... رؤية وطنية للتعامل مع الثقافات العالمية»، واللقاء الوطني السادس «التعليم... وسبل التطوير»، واللقاء الوطني السابع «مجالات العمل والتوظيف... حوار بين المجتمع ومؤسسات العمل»، واللقاء الوطني الثامن «الخدمات الصحية... حوار بين المجتمع والمؤسسات الصحية». ويستطيع القارئ الكريم أن يلحظ مدى التحول الذي حدث لجلسات المركز السنوية باتجاه العناوين الخدماتية، التي من المفترض أن تكون حصراً على مجلس الشورى أو مجلس النواب إذا ما اعتبرنا أن مجلس الشورى مجلسٌ للشيوخ كما هو معمول به في كثير من دول العالم. هذا التحول غير المبرر لعناوين اللقاءات كان يجب ألا يكون خلال هذه الفترة القصيرة نسبياً، لأن هناك عشرات المواضيع التي يمكن مناقشتها وتحليلها سنوياً للخروج بفكرة وطنية كبرى حول ثقافة الحوار. ثالثاً: فكرة الحوار الوطني لا ينبغي لها أن تظل مجرد أطروحات فكرية على ورق، بل يجب أن تصاحبها فعاليات ومناشط اجتماعية وأدبية ورياضية وفنية ذات شكل خاص، بحيث يتجاور الشيعي بجانب السني على طاولة أمسية شعرية، ويلعب الجيزاني والشمالي في فريق كرة قدم واحد، ويتقابل القصيمي والحجازي في لعبة البلوت (اللعبة السعودية الأشهر)، ويمثل الشرقاوي بجانب النجراني على خشبة مسرح واحدة. رابعاً: على العلاقات العامة في مركز الحوار الوطني توثيق محتوى اللقاءات، وعرضه على الجمهور من خلال موقع المركز، وعليهم كذلك العمل على تحرير وطباعة ملاحق صحافية متزامنة مع مواعيد انعقاد اللقاءات، تكون شبيهة بملحق كتاب في صحيفة، وتوزيعها مع الصحف السعودية مجاناً. هذا العمل سيكون له الأثر الكبير في إيصال رسالة المركز إلى أكبر عدد من المواطنين. والقناة الثقافية معنية أيضاً بهذا الجانب، فنقل الفعاليات تلفزيونياً كفيل بإيصالها إلى كل بيت. خامساً: تكوين لجنة تكون مهمتها متابعة نتائج اللقاء السنوي، وخلق نشاطات شهرية مرتبطة بهذه النتائج في مختلف مناطق المملكة تكون متصلة بالعنوان الرئيس للقاء السنوي. سادساً: تكوين لجان فرعية مكوّنة من أطياف مختلفة من المجتمعات السعودية، تكون مهمتها عقد لقاءات فرعية في مختلف مناطق المملكة، لتعزيز الفكرة من عقد اللقاء السنوي. سابعاً: العمل على زرع مبدأ العدالة الاجتماعية الرئيسي «تكافؤ الفرص» في كل قطاعات الدولة، من خلال التوعية والندب والمطالبة والتدريب، وإن لزم الأمر المراقبة والعقاب، إذ إن هذا المبدأ هو أساس ضروري يجب وجوده قبل الحديث عن أي حوار مجتمعي. هذا بالنسبة لمركز الحوار الوطني المعني بتفعيل ثقافة الحوار بين المواطنين، أما بالنسبة لمركز الحوار الوطني الذي يريد أن يلبس لبوس مجلس النواب، فإنني أطرح له هنا عدداً من الأفكار التي قد تساعده في أداء المهمة الجديدة التي سنها لنفسه أخيراً: أولاً: الالتقاء بصفة شهرية بدلاً من الاكتفاء بلقاء «خدماتي» سنوي واحد. ثانياً: العمل على انتخاب أعضاء الحوار أو «النواب» من جانب ناسهم في محافظاتهم، مع وضع مواصفات معينة للمرشحين للدخول تحت «قبة» مركز الحوار الوطني. وينبغي أن يكون تمثيل المحافظات في مركز الحوار الوطني متماشياً مع الثقل السكاني في كل محافظة. ثالثاً: التنسيق مع مجلس الشورى، بحيث يتم سحب بعض مسؤولياته، ووضعها في أجندة لقاءات مركز الحوار الوطني. رابعاً: عقد لقاءات شهرية للمركز في مناطق المملكة الثلاثة عشرة بالتناوب. خامساً: التنسيق مع ديوان المراقبة العام، بحيث يتم شهرياً عمل الاستجوابات لمستحقيها. سادساً: عدم العودة مرة أخرى لمسألة الحوار، والتنازل عنها في حال الرغبة في إحيائها من جديد لمركز جديد بمسؤوليات جديدة. * كاتب وصحافي سعودي. [email protected]