لا يكتفي شوقي بزيع بتأطير تاريخي سريع لصورة بيروت الشعرية، بل يبذل جهداً كبيراً في البحث ويعدد مصادره تعريفاً بالمدينة التي يقول ان ما يجمع حاضرها بماضيها هو التغير الدائم والافتقار الى فكرة ثابتة. «بيروت في قصائد الشعراء» الصادر عن دار الفارابي بالاشتراك مع وزارة الثقافة اللبنانية يرصد ما يدعوه الشاعر «عاصمة الوعود المؤجلة والجنة المتلألئة على فوهات البراكين» (الصفحة 73) التي تغيرت أسماء وأدواراً، وماثلت القصيدة في سعيها المستمر، غير المكتمل، الى التشكل. يذكّرني فضول بزيع تجاه العاصمة التي أحبّها وبغضها بعكسه. في التسعينات تحدّثت في لندن خبيرتان لبنانيتان مقيمتان عن الآثار الجديدة التي كشفتها يومها حفريات شركة «سوليدير». عندما سئلتا عن مصدر اسم بيروت عجزتا عن الإجابة. يذكر بزيع أن الاسم يرد مرة واحدة في العهد القديم (بيروتة في سفر حزقيال) مقارنة بصور وصيدا وجبيل التي يتكرر ذكرها. اشتق اسمها من البئر أو عين الماء، وقد يكون أصله كلمة بروتا الآرامية التي تعني السرو أو الصنوبر. الشاعر اليوناني ننوس (القرن الخامس على الأرجح) دعاها برويه وجعلها ثمرة زواج أفروديت وأدونيس. يفتن الفنان في شكل بديهي بوجهي المدينة القاتم والمنير، ويقول: «نادراً ما التحمت الحياة بالموت وتماهى الواقع مع الأسطورة كما هي الحال مع بيروت» (الصفحة 15). كان تاريخها سلسلة من الميتات والقيامات بدءاً بولادتها من زواج عشتروت وأدونيس إذ تتفق رمزية مقتل الإله بقرني الخنزير وانبعاثه كل ربيع مع دمار المدينة ونهوضها المتكررين. «عقدها» مع الموت بدأ مع نبوخذ نصّر الذي دمرّها وأحرقها تماماً في القرن السادس قبل الميلاد، وقلّده القائد السلوقي تريفون بعد أربعة قرون، وبقيت بعده يباباً قرناً كاملاً. صدّعتها الزلازل مراراً، وبكاها ننوس بعد حريق 560، في قصيدة يراها بزيع من أجمل النصوص التي كتبت عنها. أدى ازدهارها في الحقبة الرومانية الى انتشار اللهو والمجون فأسقط مؤرخون وضعها على خمسينات القرن العشرين وستيناته حين ترسخت الحرية والانفتاح والعلاقات بين الجنسين بفعل اتساع التعليم العالي وازدهار الاقتصاد. لم تستعد بيروت الألق الذي شهدته خلال الاحتلال الروماني منذ دمرتها زلازل القرن السادس، والمفارقة أن أحمد باشا الجزار، والي عكا، هو الذي أعاد تأهيلها، على أن الفضل الأكبر في تطويرها يعود الى ابراهيم باشا. حدّد التعليم العالي أحد ملامح المدينة منذ أسس الأميركيون الكلية السورية الإنجيلية (الجامعة الأميركية) والفرنسيون جامعة القديس يوسف والبريطانيون مدارس إنجيلية في المناطق الدرزية. حرّضت هذه المؤسسات على التحديث والتنوع الثقافي والاجتماعي، ووفّرت للمرأة حق العلم والتعبير في مجتمع ذكوري يعتبر النساء حريماً حبيس المنزل. لم تشمل حركة الحداثة في القرن التاسع عشر وأول القرن العشرين الشعر الذي بقي أقرب الى مرحلة الانحطاط (الصفحة 34) واتسّم بالوصف الإنشائي لجمالها وحسن نسائها السافرات وتقدمها العلمي وتعايشها الديني. رثاها خليل مطران بعدما قصفها الأسطول الإيطالي في 1912 انتقاماً من المحتل العثماني: «أقبّل فيك حيث رمى الأعادي/ رغاماً طاهراً دون الرغام». وقال أحمد شوقي في المناسبة نفسها: «بيروت مات الأسد حتف أنوفهم/ لم يشهروا سيفاً ولم يحموك». الرحّالة والكتاب الأجانب تأثروا بإسقاطات مسبقة عن الشرق الغريب الأسطوري الذي يختلط فيه السحر بالجنس والبخور والشمس اللاهبة (الصفحة 38) بقداسة الأرض التي وطأها المسيح. افتتن جيرار دو نرفال بسحر العاصمة عندما أطلّ عليها، لكنه بدا أكثر واقعية حين دخلها. ماكسيم دوكام الذي زارها برفقة غوستاف فلوبير رأى ازدواجية بين المدينة التي لا تضاهى وتلك الفقيرة التي لا تثير الفضول. ألفونس لامارتين قصدها مع ابنته لعلاجها بهواء الجبال النقي، وتغزّل بها وبمحيطها فسميّت هضبة متنية باسمه. موريس بارس كتب عن الاندهاش المقدّس الذي يشبه لحظات الانتظار الأخيرة لأول موعد غرامي. لم يتناسب الشعر بين ثلاثينات القرن الماضي وخمسيناته مع تحولاتها المتسارعة، وظل يتغذى من معين ريفي. تمكّن الشعراء الوافدون الى المدينة من مقاربتها أكثر من أبنائها الذين اتّسمت علاقاتهم بالعملية (الصفحة 46). وحده الشاعر البيروتي بالعامية رأى سوس الفساد والتفاوت الاجتماعي ينخرها من داخل، وقال إنها «عروس مصمودة في تابوت». لم يبتعد شعراء الحداثة عن هذه الرؤية الحدسية للمدينة التي أعيد تأنيثها وتعهيرها بلا خلاص رومانسي. صبّت الطفرة النفطية الاستثمارات العقارية والمصرفية في بيروت، فتحوّلت مركزاً للحرية والتنوع والحركة الثقافية، وانتشر الكتاب والمثقفون في مقاهيها. جعل خليل حاوي جانبها القاتم مجازاً لسلوك حضاري ووجودي: «نحن من بيروت مأساة ولدنا/ بوجوه وعقول مستعارة/ تولد الفكرة في السوق بغيا/ ثم تقضي العمر في لفق البكارة». أنذر أدونيس بموتها، ورأى العقم والزيف: «بيروت لم تثمر، وها ربيع الجراد والرمل على حقولي». دانها فؤاد الخشن: «بيروت يا زانية فؤادها الجليد والسخام» واعتبرها الشاعر اليمني عبدالله البردوني عاهرة تبيع جسدها للثري. تعرّض الشعراء الريفيون القادمون للدراسة لصدمة حضارية، فصرخ محمد العبدالله: «من دمي هذا الذي يعلو مداميكا وباطوناً مسلّح(...) لست أمي إنما أنت خياناتي لأمي/ وخضوعي للذي شرّد أمي واشتراني/ لملمي ثدييك ثدياك زجاج». وكتب شوقي بزيع: «وبيروت حين أتاها المخاض/ وهزّت إليها بجذع الخليج تساقط مولودها البكر دون احتضار». قبيل اجتياح الجيش الإسرائيلي بيروت في 1982 استقطب شطرها الغربي كثيراً من الكتاب العرب تأييداً لمنظمة التحرير الفلسطينية التي سيطرت هناك. نقلتها مأساة الحصار والقصف من عاهرة الى عذراء مرفوعة على الصليب وامرأة مسبية وحسناء دفعت ثمن جمالها الباهر. تقنياً تخلى الشعراء عن هواجس الحداثة واقتراحاتها اللغوية «مغلبين الموضوع على الشكل، والتطريب على المعنى، والتوظيف السياسي الحماسي على الكثافة والتقّصي وجمالية الحرية». ضاهت القصائد عن بيروت عدد القذائف التي استهدفتها، لكن معظمها لم يتجاوز حدود الرثاء الإنشائي والشعارات الحماسية. كان نزار قباني أحد أكثر الشعراء العرب احتفاء بالمدينة «التي كانت تدعى الحرية» واعترف بضمير الجماعة بخيانتها وقتلها. وجدها محمود درويش «النجمة الأخيرة» و «الخيمة الأخيرة» وقال: «تغرينا بألف بداية مفتوحة وبأجديات جديدة». لقّبها سعدي يوسف «عنقاء الحياة المضمرة» ورثا عبده وازن انطفاءها إذ لم تعد «نجمة معلقة في سماء ولا قلعة رابضة أمام البحر». حتى أثناء حصارها وقصفها المستمر في 1982 لم يرغب أحد في الخروج منها الى السلامة، وفق الشاعر العراقي شاكر لعيبي. كانت هذه المدينة تمثل بالنسبة إلينا التحقق الكلي لفكرة الحرية الغائبة في عالمنا. الحرية بمستوياتها الطفيفة ومستوياتها الراقية. حرية مفاجئة توغلت الى الأبد في أعماق العرب وسيظل طعمها عالقاً في أرواحهم الى الممات.